بوابة أحد بوموسى نيوز


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

بوابة أحد بوموسى نيوز
بوابة أحد بوموسى نيوز
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مجالس القران الكريم لفريد الانصاري رحمه الله تعالى(2)

اذهب الى الأسفل

مجالس القران الكريم لفريد الانصاري رحمه الله تعالى(2) Empty مجالس القران الكريم لفريد الانصاري رحمه الله تعالى(2)

مُساهمة من طرف أبوأسامة مبارك الأربعاء يناير 05, 2011 7:40 am

القسم الأول
مدخل إلى مجالس القرآن
حاجتنا إلى القرآن العظيم
من أنت؟
أنا، وأنت!.. ذلك هو السؤال الذي قلما ننتبه إليه! والعادة أن الإنسان يحب أن يعرف كل شيء مما يدور حوله في هذه الحياة، فيسأل عن هذه وتلك، إلا سؤالا واحدا لا يخطر بباله إلا نادرا! هو: من أنا؟ نعم، فهل سألت يوما نفسك عن نفسك: من أنت؟
ولعل أهم الأسباب في إبعاد ذلك وإهماله يرجع في الغالب إلى معطى وهمي، إذ نظن أننا نعرف أنفسنا فلا حاجة إلى السؤال! تغرنا إجابات الانتماء إلى الأنساب والألقاب، وتنحرف بنا عن طلب معرفة النفس الكامنة بين أضلعنا، التي هي حقيقة (من أنا؟) و(من أنت؟) ويتم إجهاض السؤال في عالم الخواطر؛ وبذلك يبقى الإنسان أجهل الخلق بنفسه، فليس دون الأرواح إلا الأشباح!
ولو أنك سألت نفسك بعقلك المجرد: من أنتِ؟ سؤالا عن حقيقتها الوجودية الكاملة؛ لما ظفرت بجواب يشفي الغليل! وإذن تدخل في بحر من الحيرة الوجودية!
أنا وأنتَ، تلك قصة الإنسان منذ بدء الخلق إلى يوم الناس هذا.. إلى آخر مشهد من فصول الحياة في رحلة هذه الأرض! وهي قصة مثيرة ومريرة!
ولذلك أساسا كانت رسالةُ القرآن هي رسالة الله إلى الإنسان؛ لتعريفه بنفسه عسى أن يبدأ السير في طريق المعرفة بالله؛ إذْ معرفة النفس هي أول مدارج التعرف إلى الله. وليس صدفة أن يكون أول ما نزل من القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)(العلق:1-2). ثم تواتر التعريف بالإنسان – بَعْدُ - في القرآن، في غير ما آية وسورة، من مثل قوله سبحانه: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(الإنسان:1-3) وكذلك آيات السيماء الوجودية للإنسان، الضاربة في عمق الغيب، من قوله تعالى: (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ)(السجدة:6-9).
ومن هنا أساسا كانت قضية الشيطان - بما هو عدو للإنسان - هي إضلاله عن معالم الطريق، في سيره إلى ربه! بدءا بإتلاف العلامات والخصائص المعرفة بنفسه، والكاشفة له عن حقيقة هويته، وطبيعة وجوده! حتى إذا انقطعت السبل بينه وبين ربه ألَّهَ نفسَه، وتمرد على خالقه!
ولم يزل الإنسان في قصة الحياة يضطرب بين تمرد وخضوع، في صراع أبدي بين الحق والباطل إلى الآن! فكانت لقصته تلك عبر التاريخ مشاهدُ وفصول! وكانت له مع الشيطان ومعسكره معاركُ ضارية، فيها كَرٌّ وفَرٌّ، وإقبالٌ وإدبار!
قال عز وجل حكايةً عن إبليس: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً. قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا. وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)(الإسراء:62-65).
من أجل ذلك كان للإنسان في كل زمان قصةٌ مع القرآن، وقصةٌ مع الشيطان!
فيا حسرة عليك أيها الإنسان! هذا عمرك الفاني يتناثر كل يوم، لحظةً فلحظة، كأوراق الخريف المتهاوية على الثرى تَتْرَى! اُرْقُبْ غروبَ الشمس كل يوم؛ لتدرك كيف أن الأرض تجري بك بسرعة هائلة؛ لتلقيك عن كاهلها بقوة عند محطتك الأخيرة! فإذا بك بعد حياة صاخبة جزءٌ حقير من ترابها وقمامتها! وتمضي الأرض في ركضها لا تبالي.. تمضي جادةً غير لاهية – كما أُمِرَتْ - إلى موعدها الأخير! فكيف تحل لغز الحياة والموت؟ وكيف تفسر طلسم الوجود الذي أنت جزء منه ولكنك تجهله؟ كيف وها قد ضاعت الكتب كلها؟ ولم يبق بين يديك سوى هذا (الكتاب)!
فأين تجد الهداية إذن يا ابن آدم؟ وأنى تجدها إن لم تجدها في القرآن؟ وأين تدرك السكينة إن لم تدركها في آياته المنصوبة - لكل نفس في نفسها – علامات ومبشرات في الطريق إلى الله؟ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)(الإسراء:9 - 10).
نَعَم، بقي القرآن العظيم إعجازا أبديا، يحي الموتى، ويبرئ المرضى، ويقصم قلوب الجبابرة، ويرفع هامات المستضعفين في العالمين، ويحول مجرى التاريخ! وكل ذلك كان - عندما كان - بالقرآن، وبالقرآن فقط! وهو به يكون الآن، وبه يكون كلما حَلَّ الإبَّانُ من موعد التاريخ، ودورة الزمان! على يد أي كان من الناس! بشرط أن يأخذه برسالته، ويتلوه حق تلاوته! وتلك هي القضية!
ماذا حدث لهؤلاء المسلمين؟ أين عقولهم؟ أين قلوبهم؟ أليس ذلك هو القرآن؟ أليس ذلك هو كلام الله؟ أليس الله رب العالمين؟ أليس الخلق - كل الخلق - عبيده طوعا أو كرها؟ ففيم التردد والاضطراب إذن؟ لماذا لا ينطلق المسلم المعاصر يشق الظلمات بنور الوحي الساطع، الخارق للأنفس والآفاق؟
ألم يقل الله في القرآن عن القرآن، بالنص الواضح القاطع: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ! وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)؟(الحشر:21). فهل هذه خاصية ماتت بموت محمد رسول الله؟ أم أن معجزة القرآن باقية بكل خصائصها إلى يوم القيامة؟ ورغم أن الجواب هو من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة لكل مسلم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي البشرى إلى هذه الأمة، نورا من الأمل الساطع الممتد إلى الأبد! فقد دخل عليه الصلاة والسلام المسجدَ يوما على أصحابه ثم قال:‌ (أبشروا.. أبشروا..! أليس تشهدون ألا إله إلا الله وأني رسول الله؟‌ قالوا ‌:‌ بلى، قال ‌:‌ فإن هذا القرآن سَبَبٌ، طرفُه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به! فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً!)( ) ومثله أيضا قولهe بصيغة أخرى: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض)( ). تلك حقيقة القرآن الخالدة، ولكن أين من يمد يده؟
ألم يأن للمسلمين – وأهل الشأن الدعوي منهم خاصة – أن يلتفتوا إلى هذا القرآن؟ عجبا! ما الذي أصم هذا الإنسان عن سماع كلمات الرحمن؟ وما الذي أعماه عن مشاهدة جماله المتجلي عبر هذه الآيات العلامات؟ أليس الله – جل ثناؤه – هو خالق هذا الكون الممتد من عالم الغيب إلى عالم الشهادة؟ أليس هو – جل وعلا – رب كل شيء ومليكه؟ الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟ أوَليس الله هو مالك الملك والملكوت؟ ذو العزة والجبروت؟ لا شيء يكون إلا بأمره! ولا شيء يكون إلا بعلمه وإذنه! أوَليس الخلق كلهم أجمعون مقهورين تحت إرادته وسلطانه؟ فمن ذا قدير على إيقاف دوران الأرض؟ ومن ذا قدير على تغيير نُظُم الأفلاك في السماء؟ من بعد ما سوَّاها الله على قدر موزون، (فَقَالَ لَهَا وَلِلاَرْضِ إيتِيَا طَوْعاً أوْ كَرْهاً قَالَتَا أتَيْنَا طَائِعِينَ)؟(فصلت:10) ومن ذا مِنَ الشيوخ المعمَّرين قديرٌ على دفع الهرم إذا دب إلى جسده؟ أو منع الوَهَنِ أن ينخر عظمه، ويجعد جلده؟ ويحاول الإنسان أن يصارع الهرم والموت! ولكن هيهات! هيهات!
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيُوهِنَهَا *** فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ!
الموت والفناء هو اليقينية الكونية المشتركة بين جمع الخلق، كافرهم ومؤمنهم!
يولد الإنسان يوما ما.. وبمجرد التقاط نفَسِه الأول من هواء الدنيا يبدأ عمره في عَدٍّ عَكْسِي نحو موعد الرحيل..! فكان البدءُ هو آية الختام! هكذا يولد الإنسان وبعد ومضة من زمن الأرض تكون وفاته! (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِكْرَامِ)(الرحمن:24-25).
ذلك هو الله رب العالمين، يرسل رسالته إلى هذا الإنسان العبد، فيكلمه وحيا بهذا القرآن! ويأبى أكثرُ الناس إلا تمردا وكفورا! فواأسفاه على هذا الإنسان! ويا عجبا من أمر هؤلاء المسلمين! كأن الكتاب لا يعنيهم، وكأن الرسول لم يكن فيهم! (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ! مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون!)(يس:30)
إن هذا القرآن هو الروح الذي نفخه الله في عرب الجاهلية؛ فأخرج منهم خير أمة أخرجت للناس! وانبعثوا بروح القرآن من رماد الموت الحضاري؛ طيوراً حية تحلق في الآفاق، وخرجوا من ظلمات الجهل ومتاهات العمى أدِلاَّءَ على الله، يُبْصِرون بنور الله ويُبَصِّرون العالم الضال حقائق الحياة! ذلك هو سر القرآن، الروح الرباني العظيم، لا يزال هو هو! روحا ينفخ الحياة في الموتى من النفوس والمجتمعات؛ فتحيا من جديد! وتلك حقيقة من أضخم حقائق القرآن المجيد! قال جل ثناؤه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ. وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ)(الشورى:52-53).
من أنت؟ تلك قصة النبأ العظيم! نبأ الوجود الضخم الرهيب، من البدء إلى المصير! النبأ الذي جاءت به النُّذُرُ من الآيات: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا: يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ!)(الأنبياء:97). وقريبا جدا – واحسرتاه! – تنفجر به الأرض والسماوات! (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ! كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)(الأنبياء:104).
ذلكم هو النذير القرآني الرهيب! ولقد أعذر من أنذر! وما بقي لمن بلغه النبأ العظيم من محيص؛ إلا أن يتحمل مسؤوليته الوجودية، ويتخذ القرار، قراراً واحدا من بين احتمالين اثنين، لا ثالث لهما: النور أو العَمَى! وما أنزل الله القرآن إذْ أنزله إلا لهذا! ولقد صَرَّفَه على مدى ثلاث وعشرين سنة؛ آيةً آيةً، كل آية في ذاتها هي بصيرة للمستبصرين، الذين شَاقَهُم نورُ الحق فبحثوا عنه رَغَباً ورَهَباً؛ عسى أن يكونوا من المهتدين. وبقي القرآن بهذا التحدي الاستبصاري يخاطب العُمْيَ من كل جيل بشري! قال الحقُّ جل وعلا: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)(الأنعام:104).
من أجل ذلك؛ نرجع آئبين إلى رسالة الله، نقرؤها من جديد، نستغفره تعالى على ما فرطنا وقصرنا! قدوتنا في هذه السبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته الزكية، التي لم تكن في كل تجلياتها النبوية – قولا وفعلا وتقريرا - إلا تفسيرا للقرآن العظيم! وكفى بكلمة عائشة أم المؤمنين، في وصفه – عليه الصلاة والسلام – لما سئلت عن خُلُقِهe؛ فقالت بعبارتها الجامعة المانعة: (كان خُلُقُه القرآن!)( ) ولقد ضل وخاب من عزل السنة عن الكتاب!
نرجع إذن إلى القرآن، نحمل رسالته إن شاء الله – كما أمر الله – نخوض بها تحديات العصر، يحدونا اليقين التام بأن لا إصلاح إلا بالصلاح! وأن لا ربانية إلا بالجمع بينهما! وأن لا إمكان لكل ذلك – صلاحاً وإصلاحاً وربانيةً - إلا بالقرآن المجيد! وهو قول الحق - جل ثناؤها – في آية عجيبة، آية ذات علامات – لمن يقرأ العلامات – ولكل علامة هدايات. قال تعالى ذِكْرُه: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(الأعراف:170) التَّمْسِيكُ بالكتاب، وإقامُ الصلاة: أمران كفيلان برفع المسلم إلى منـزلة المصلحين! هكذا: (إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ). وإن تلك لآية! ومثلها قوله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آل عمران:79). وقد قُرِئَتْ: (تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) و(تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ)؛ للجمع بين وظيفتي التَّعَلُّم والتعليم، والصلاح والإصلاح، إذْ بذلك يكون التدارس لآيات القرآن العظيم، بما هي علامات دالة على الله، وراسمة لطريق التعرف إليه جل وعلا، في الأنفس والآفاق. وتلك هي السبيل الأساس للربانية، كما هو واضح من دلالة الحصر المستفادة من الاستدراك في الآية: (ولكن كونوا ربانيين).
مفهوم القرآن
ولنسأل الآن: ما القرآن؟
ما هذا الكتاب الذي هز العالم كله؟ بل الكون كله؟
أجمع العلماء في تعريفهم للقرآن على أنه (كلام الله)، واختلفوا بعد ذلك في خصائص التعريف ولوازمه، ولا نقول في ذلك إلا بما قال به أهل الحق من السلف الصالح. وإنما المهم عندنا الآن ههنا بيان هذا الأصل المجمع عليه بين المسلمين: (القرآن كلام الله). هذه حقيقة عظمى، ولكن لو تدبرت قليلا..
الله جل جلاله خالق الكون كله.. هل تستطيع أن تستوعب بخيالك امتداد هذا الكون في الآفاق؟.. طبعا لا أحد له القدرة على ذلك إلا خالق الكون سبحانه وتعالى. فالامتداد الذي ينتشر عبر الكون مجهول الحدود، مستحيل الحصر على العقل البشري المحدود. هذه الأرض وأسرارها، وتلك الفضاءات وطبقاتها، وتلك النجوم والكواكب وأفلاكها، وتلك السماء وأبراجها، ثم تلك السماوات السبع وأطباقها... إنه لضرب في غيب رهيب لا تحصره ولا ملايين السنوات الضوئية. أين أنت الآن؟ اسأل نفسك.. أنت هنا في ذرة صغيرة جدا، تائهة في فضاء السماء الدنيا: الأرض. وربك الذي خلقك، وخلق كل شيء، هو محيط بكل شيء قدرةً وعلما.. هذا الرب الجليل العظيم، قدَّر برحمته أن يكلمك أنت، أيها الإنسان؛ فكلمك بالقرآن.. كلام الله رب العالمين. أوَ تدري ما تسمع؟ الله ذو الجلال رب الكون يكلمك (فاستَمِعْ لِمَا يُوحَى). أي وجدان، وأي قلب؛ يتدبر هذه الحقيقة العظمى فلا يخر ساجدا لله الواحد القهار رغبا ورهبا؟ اللهم إلا إذا كان صخرا أو حجرا. كيف وها الصخر والحجر من أخشع الخلق لله؟ (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الحشر:21) وهي أمثال حقيقة لا مجاز، ألم تقرأ قول الله تعالى في حق داود عليه السلام: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ)(سورة ص:18-19)، وقوله تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(الأعراف:143).
كلام الله هو كلام رب الكون، وإذا تكلم سبحانه تكلم من عَلُ: أي من فوق؛ لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى، فوق كل شيء، محيط بكل شيء علما وقدرة. إنه رب الكون.. فتدبر: (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)(فصلت:54). ومن هنا جاء القرآن محيطا بالكون كله، متحدثا عن كثير من عجائبه. قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ. لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْـزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ. أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(الواقعة:75-82). سبحانك ربنا ولا بأي من آياتك نكذب.
ذلك هو القرآن.. كلام من أحاط بمواقع النجوم خَلْقاً، وأمراً، وعلماً، وقدرةً، وإبداعاً. فجاء كتابه بثقل ذلك كله، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، من بعدما هيأه لذلك، وصنعه على عينه سبحانه جل وعلا، فقال له: (إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(المزمل:5). ومن هنا لما كذب الكفار بالقرآن، نعى الله عليهم ضآلة تفكيرهم، وقصور إدراكهم، وضعف بصرهم، عن أن يستوعبوا بعده الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)(الفرقان:5-6). وإنه لرد عميق جدا. ومن هنا جاء متحدثا عن كثير من السر في السماوات والأرض. قال عز وجل: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ. وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(الكهف:54). وقال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)(فصلت:53-54).
فليس عجبا أن يكون تالي القرآن متصلا ببحر الغيب، ومأجورا بميزان الغيب، بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، والحرف إنما هو وحدة صوتية لا معنى لها في اللغة، نعم في اللغة، أما في القرآن فالحرف له معنى، ليس بالمعنى الباطني المنحرف، ولكن بالمعنى الرباني المستقيم. أوَ ليس هذا الحرف القرآني قد تكلم به الله؟ إذن يكفيه ذلك دلالة وأي دلالة! ويكفيه ذلك عظمة وأي عظمة! فعن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب اللَّه فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)( ).
ولذلك كان لقارئ القرآن ما وعده الله إياه، من رفيع المنازل في الجنان العالية، وما أسبغ عليه من حلل الجمال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن ‌:‌ اقرأ وَارْقَ! ورَتِّلْ كما كنت ترتل في دار الدنيا! فإن منـزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها!)( ) ‌وقال أيضا: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول‌:‌ يا رب، حَلِّهِ! فيُلْبَسُ تاجَ الكرامة، ثم يقول:‌ يا رب زِدْهُ! فيُلْبَسُ حُلَّةَ الكرامة، ثم يقول‌:‌ يا رب اِرْضَ عنه! فيرضى عنه، فيقول‌:‌ اِقرأ، وَارْقَ! ويُزَادُ بكل آية حسنة!)( ) (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(الجمعة:4).
إنه تعالى تكلم، وهو سبحانه وتعالى متكلم، سميع، بصير، عليم، خبير، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، نثبتها كما أثبتها السلف، بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه. لقد تكلم عز وجل، وكان القرآن من كلامه الذي خص به هذه الأمة المشرفة، أمة محمد عليه الصلاة والسلام. فكان صلة بين العباد وربهم، صلة متينة، مثل الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، طرفه الأعلى بيد الله، وطرفه الأدنى بيد من أخذ به من الصالحين.
قال عليه الصلاة والسلام في خصوص هذا المعنى، من حديث سبق: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض)( ) وقال في مثل ذلك أيضا: (أبشروا.. فإن هذا القرآن طرفه بيد الله و طرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا، و لن تضلوا بعده أبدا)( ). وروي بصيغة أخرى صحيحة أيضا فيها زيادة ألطف، قال صلى الله عليه وسلم:‌ (أبشروا.. أبشروا.. أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟‌ قالوا ‌:‌ بلى، قال ‌:‌ فإن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا!)( )
هي الرسالة وصلت من رب العالمين إليك أيها الإنسان، فاحذر أن تظنك غير معني بها في خاصة نفسك، أو أنك واحد من ملايير البشر، لا يُدْرَى لك موقع من بينهم، كلا! كلا! إنه خطاب رب الكون، فيه كل خصائص الكلام الرباني، من كمال وجلال، أعني أن الله يخاطب به الكل والجزء في وقت واحد، ويحصي شعور الفرد والجماعة في وقت واحد، (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ. وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ. وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(آل عمران:29) سبحانه جل جلاله، لا يشغله هذا عن ذاك، وإلا فما معنى الربوبية وكمالها؟ تماما كما أنه قدير على إجابة كل داع، وكل مستغيث، من جميع أصناف الخلق، فوق الأرض وتحت الأرض، وفي لجج البحر، وتحت طبقاته، وفي مدارات السماء... إلخ. كل ذلك في وقت واحد - وهو تعالى فوق الزمان والمكان - لا يشغله شيء عن شيء، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فبذلك المنطق نفسه أنت إذ تقرأ القرآن تجد أنه يخاطبك أنت بالذات، وكأنه لا يخاطب أحدا سواك. احذر أن تخطئ هذا المعنى.. تذكر أنه كلام الله، وتدبر.. ثم أبصر!
قال جل جلاله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(محمد:24)، (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)(النساء:82).. فتدبر!
ذلك هو القرآن: الكتاب الكوني العظيم، اقرأه وتدبر، فوراء كل كلمة منه حكمة بالغة، وسر من أسرار السماوات والأرض، وحقيقة من حقائق الحياة والمصير، ومفتاح من مفاتيح نفسك السائرة كرها نحو نهايتها. فتدبر.. إن فيه كل ما تريد. ألست تريد أن تكون من أهل الله؟ إذن عليك بالقرآن! اجعله صاحبك ورفيقك طول حياتك؛ تكن من (أهل الله) كما في التعبير النبوي الصحيح. قال عليه الصلاة والسلام: (إن لله تعالى أهلين من الناس‌:‌ أهل القرآن هم أهل الله، وخاصته‌)( ).
القرآنُ العظيمُ وقضيةُ الأُمَّة
كَلِمَاتُ الله في مَعْرَكَةِ السَّلاَم!
لا تحرير للأمة اليوم في معركة هذا العصر إلا بالقرآن! لأن طبيعة المعركة الجديدة قائمة على "الكلمة!" والقرآن العظيم هو الكلام القاهر فوق كل كلام!
ولكن بعد أن نفهم السؤال الإشكالي: ما حقيقةُ "الكلمة"؟ وما دورها في معركة العصر الجديدة؟
إن "الكلام" ليس "قولا" وحسب، إذ "القول" دال على كل ملفوظ، سواء أفاد معنى أم لم يفده، كما هو معلوم من تعريفات النحاة، بينما "الكلام" لا يكون إلا لفظا مفيدا لمقصودٍ مُرَادٍ للمتكلم، سواء أفاد خيرا أم أفاد شرا! على وزان قول ابن مالك:
كَلاَمُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ كاسْتَقِمْ!
ومن هنا ننطلق من هذا التقعيد النحوي المدرسي البسيط؛ لنجزم بعد ذلك بأن الكلام - على هذا المعنى المؤصل في قواعد العربية - لا يكون إلا فعلا جاريا في الواقع، وحدثا جالبا لأثرٍ في التاريخ! إن الكلمة – أي كلمة – إنما هي فعل من الأفعال، هذا على المستوى الوجودي. وتأمل كيف أن الخطاب مهما يصدر من منتجه فإنه لا بد يؤثر في الواقع ولو على المستوى النفسي ابتداء، ثم يكون له بعد ذلك أثر فعلي. وأقل الأثر أن يعود على صاحبه بالخير أو بالشر. ولا يتصور في الواقع والعادة الجارية في الخلق كلامٌ بلا أثر مطلقا البتة! وهذا يبدأ من مستوى الخلق والإنشاء والتكوين، مما ينسب إلى الله جل جلاله من الأفعال والأقدار، إلى مستوى الفعل الإنساني والإنجاز البشري في الواقع والتاريخ.
فمثال الأول: قول الله تعالى فيما عَرَّفَ به حقيقةَ نبيه عيسى عليه السلام، واصفا إياه بأنه (كَلِمَتُهُ!) قال جل ثناؤه: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)(النساء:171). فكان عيسى ههنا هو (كلمة الله) جل علاه، أي أنه راجع إلى أمره القدري التكويني. إنه إذن خَلْقُ الله؛ لأن "الكلمة" راجعة إلى فعله تعالى المتعلق بتدبير شؤون الربوبية؛ خلقا وتقديرا وقَـيُّومِيَّةً. وهذا المعنى شامل في كل خلق أو تصرف إلهي، وفي كل قضاء وقدر. لا شيء من ذلك كله يخرج عن (كلمة الله)( ). ومما يدل عليه أيضا أن "الكلمة" في القرآن أمرٌ واقعٌ حتما قولُه تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(هود:110)، وقوله سبحانه: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(هود: 119)، وكذلك قوله جل ثناؤه: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ)(غافر:6). ومِثْلُ هذا في القرآن كثير لمن شاء أن يتتبعه. فكل ذلك ونحوه مما تضمن ضميمة (كلمة ربك) دال على معاني الخلق والإنشاء والتكوين والتصيير، وسائر أفعال القضاء والقدر الإلهيين. وليست "الكلمة" قولاً يقال لمجرد القول وكفى! بل هي إنجاز حتمي لا يتخلف توقيعه أبدا! فمتى قيلت "الكلمة" - بهذا السياق – كان معناه أنها فُعِلَتْ! ومن هنا لم تخرج "كلمة الله" عموما عن معنى فعل الله جل وعلا، وهو سبحانه وتعالى لا يخلف القول ولا الميعاد.
ومثال الثاني قول الله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا)(البقرة:31). فالأسماء – مهما اختلف في تفسير معناها – فإنه لا اختلاف في أنها "كلام" بالمعنى الشرعي والوجودي للكلمة! ولا يمكن أبدا أن تتصور "الأسماء" على أنها لغو أو عبث! فهي أساس الناطقية التي فُطِرَ عليها الإنسان، والتي تشكل جوهرا أساسيا من ماهيته الوجودية، ووظيفته الكونية، والتي كانت - بعد ذلك - أساس الاستخلاف له في الأرض! ومثلها قوله تعالى: (خَلَقَ الإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)(الرحمن:3-4). ومن هنا كانت مسؤوليته عما يتكلم به كبيرة جدا! وهي مسؤولية لا تخرج عن عموم الأمانة التي أنيطت بالإنسان في قول الله جل وعلا: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا!)(الأحزاب:72). فالكلام البشري كله محصي عليه كَلِمَةً كَلِمَةً! يستوي في ذلك إنشاؤه وخبره؛ لأنه كله يوزن بميزان التحقيق بين الصدق والكذب!
وعليه؛ فتعريف البلاغيين "الخبر" في الدرس البلاغي بأنه: (ما احتمل الصدق والكذب) – بزعمهم - تعريف غير مانع أبدا! بالمعنى الوجودي لكلمة (خبر)، لا بالمعنى اللغوي العادي! فتعاريف البلاغيين راجعة إلى موازين المنطق الأرسطي الصوري، وقد عُلِمَ ما فيه من خلل منهجي في تحديد المفاهيم والتصورات! إذ هو قائم على تحديد الماهيات بحدود عقليات خاضعة لمنطق العقل المجرد عن معطيات الوحي! ولا يمكن لمثل تلك الموازين إلا أن تكون "صورية" فعلا كما عبروا هم أنفسهم! فإلى أي حد تطابق الصورة الحقيقة؟ تلك هي المشكلة! ومن هنا فحد (الخبر) عندهم هو وإن جمع المقصود فإنه لا يمنع دخول غيره فيه، أي معنى "الإنشاء"، أرأيت لو أن شخصا نادى غيره، أو أمَرَهُ، أو نهاه، وهو لا يقصد ذلك؛ ألا يكون كاذبا؟ بلى والله! فإنما الكذب مخالفة العبارة لمقتضى الواقع، وهذا منه؛ لأن المنادي، أو الداعي، أو النادب، أو المستغيث، أو الآمر، أو الناهي.. إلى آخر ما صنفوه في معنى الإنشاء؛ كل ذلك إذا لم يصادف إرادة في نفس المتكلم وقصداً فهو كذبٌ محض! فالإنشاء إذن بهذا - المعنى الوجودي - يحتمل الصدق والكذب أيضا. وهل يتوجع المتوجع لغير وَجَع؟ وهل يستغيث المستغيث لغير فَزَع؟ فإن قصد به معنى آخر من مجاز وغيره، كان ذلك المعنى الجديد المعدول إليه هو أساس الصدق والكذب بعد ذلك! وإنما العبرة بالخطاب قصدُ المتكلم وإرادتُه! فلا شيء من الإنشاء إلا وهو يحتمل الصدق والكذب أيضا!
وأزعم أنه لا شيء من الكلام الطبيعي للإنسان إلا وهو يحتملهما! ومن هنا قول الله تعالى الجامع لكل ذلك: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ!)(ق:17). وقوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا!)(الكهف:49). ويدخل في ذلك قطعا كل ما تلفظوا به من قول، كما ستراه بدليله بحول الله تعالى( ).
ولذلك فقد نال اللسان الحظ الأوفر في الاعتبار في أحكام الشريعة؛ فكانت العقود كلها - سواء كانت عقود الإيمان والإسلام، من بيعة شرعية، أو تعهد ومعاهدة، أو نكاح أو طلاق، أو كانت من المصارفات المالية من بيوع، وإجارات، وأكرية، وغير ذلك مما يمكن أن يتصوره الذهن - كلها إنما هي عند التحقيق "كلام"! وليست مجرد لعب أو لهو من الأقوال! لأنها قائمة على معنى "مفيد"، أي مقصود مراد للمتخاطبين؛ بما فيها من إيجاب وقبول، وما جرى مجراهما من معاني التراضي والإقرار. ومن هنا قول الله تعالى في محكم كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(المائدة:1). وقوله سبحانه في سياق بيان أن الإنسان محاسب على كل ما يصدر منه من الأقوال، مما أوردناه قبل قليل: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(ق:17). وفي الحديث: (وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حَصَائِدُ ألسنتهم؟!)( ) وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا؛ يرفعه الله بها درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا؛ يهوي بها في جهنم!)( ). ومن ثَمَّ لم يكن جِدُّ رسول الله ولا مزاحه صلى الله عليه وسلم إلا حقا وصدقا! ولم يكن فيه كذب قط! حاشاه! عليه الصلاة والسلام.
إن الكلام مؤثر جدا في إنتاج الفعل الإنساني بل هو عين الفعل الإنساني! ولا شيء من فعله إلا وهو حاصل بالكلام مباشرةً، أو نتيجةً، أو توجيها، أو تفاعلا! وإنما بدء التكليف الإلهي للإنسان كَلِمَةٌ، وآخرُه كَلِمَة! منذ قال له: (كُن فَيَكُون)، إلى أن علَّمَهُ (الأسماءَ كلَّها) إلى أن أنزل عليه (كلامه): القرآن الكريم!
فالذي لا يعير للكلام – أي كلام – الخطورةَ التي يستحقها فهو جاهل بحقائق الدين وحقائق الوجود معا! وكثير من العقوبات في الإسلام والحدود والتعازير والآثام ...إلخ؛ إنما ترتبت شرعا عن مجرد (كلام) يتكلم به الإنسان باطلا! بدءا بكلمة الكفر إلى كلمة القذف، إلى ما شابه ذلك من كلمات الغيبة، والنميمة، وعبارات السخرية والتنابز بالألقاب، وهلم جرا..!
كما أن بدء الخير كله "كلمة". انطلاقا من كلمة الإخلاص: (لا إله إلا الله)، وما يتممها من (شهادة أن محمدا رسول الله)؛ إلى أبسط كلمات الإيمان والإحسان، كإفشاء السلام، وتشميت العاطس، وإرشاد السائل... وما بين هذا وذاك من كليات الكلام وجزئياته؛ فإنه جميعا يَؤُولُ – في النهاية - إلى بناء عمران الحياة الإنسانية، القائمة على العدل والسلام؛ لأن ذلك كله هو الذي ينتج فعل الخير بمعناه المطلق، ويحقق غاية الوجود البشري في الأرض. ومن هنا كانت أول نعمة امتن الله بها على الإنسان بعد نعمة الخلق أنه علمه البيان! ولذلك كان القرآن بين يديه - وهو كلام الله – الأداة الكلامية الفاعلة لإقامة الحياة في الأرض بالقسط والميزان! فتَدبَّرْ قولَه تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ. خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ. وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ!) (الرحمن:1-9). وأول الوزن وزن الكلام، الذي هو حقيقة (البيان)، فإذا خسر؛ خسرت كل الموازين بعده! بدءا بموازين السياسة – بمعناها العام – وما تتضمنه من موازين الإدارة والاقتصاد؛ إلى موازين التجارة وسائر المصارفات المالية والاجتماعية الجزئية والكلية... إلى كل طبائع العمران وتجليات الحضارة البشرية؛ إلى كل ما يمتد إليه ذلك من فقدان توازن الحياة الإنسانية والبيئية والكونية!
إن اللغة تصنع الحياة أو تدمرها! ومن هنا كانت مسؤولية الكلمة في الإسلام جسيمة جدا!
والإعلام اليوم هذا الطاغية الذي يسمونه (السلطة الرابعة)! ليس في واقع الأمر إلا السلطة الأولى! لأن المتسلط على الخلق، الحاكم أمرهم بالحق أو بالباطل؛ إنما وصل إلى مبتغاه من التسلط والتحكم بالكلمة! فحتى عندما يكون الأسلوب المتبع في التسلط قهريا؛ فإنما صنع الطاغية أدوات قهره وتجبره في البداية بالكلمة! ولا شيء يبدأ قبل الكلمة! فَبَدْءُ الوجود والخَلْقِ والتكوين في القرآن الكريم إنما هو كلمة! إنها كلمتُهُ جلَّ جلالُه: (كن فيكون!) قال جل شأنه: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ! إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ! فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.)(يس:81 -83).
إن الكلمة هي التي تصنع الصورة وتنتجها، بل هي جوهرها وحقيقتها؛ فلا يغرنك أن الإعلام اليوم صار يرتكز أساسا على الصورة، فإنما هذه – رغم خطورتها - بنت تلك في نهاية المطاف. ولولا الكلمات لما كانت الصور في الوجود أصلا! أضف إلى ذلك أن الصورة تُعْرَضُ حينما تُعْرَضُ في العادة الغالبة مسبوقةً بالكلمة، أو مقرونة بها، أو ملحقة بها! أو كل ذلك جميعا! فلا تأتي إذن إلا من خلالها! وحينما نتوهم أننا نتلقى صورا بغير كلمات، فإنما هي لعبة الكلمة المتخفية خلف الصورة! إنك لا تسمعها، نعم؛ ولكنها تتدفق إلى خواطرك في صمت، وتسكن اعتقادك بقوة! ومن ذا الذي قال إن الكلمة هي الصوت فقط؟ إنما الكلمة "مفهوم" يتواصل به الإنسان عبر اللغة الطبيعية، الصوتية أو الإشارية أو الصورية أو السيميائية، إلى غير ذلك مما في الوجود من رموز وأشكال نُصِبَتْ للدلالة على معنى! كل ذلك كلام!
إن الكلمة هي الوجود وما سواها صُوَر! ومن هنا ترى عمق الآية الكريمة: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا!)(البقرة:31)؛ فانظر - في ضوء ذلك - إلى هذا الكلام الإلهي العظيم! كم هو فعلا يضرب في عمق الحقيقة، وإلى أي حد هو يوغل في مجاهيل الوجود!
إن الإعلام اليوم كما كان من قبل في التاريخ – رغم اختلاف الأشكال والتجليات – ليعتبر أخطر وسائل التحكم، وأرهب أدوات الصراع الحضاري، وأقوى آليات التدافع العمراني في الأرض!
إن الطواغيت الذين قهروا الناس في الأرض عبر التاريخ لم يكونوا بشرا فوق البشر في أبدانهم ولا في عقولهم! ولا كانوا "آلهة" في واقع الأمر، وإنما هم "متكلمون" فقط! أسسوا أسطورة من الكلام في أذهان الناس وسحروهم بها، أو ورثوا رصيدا كلاميا عن آبائهم وأجدادهم واستمروا في إنتاجه وتجديده؛ حتى تعيش الأسطورة في شعوبهم إلى الأبد! فكان منهم (ابن الشمس) و(حفيد الرب)، و(وكيل الآلهة)، وغير ذلك من سائر أنواع الكلام مما يدخل في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ!)(الأعراف:116).
وما كان طغيان فرعون في الأرض واستذلال أهلها؛ إلا من بعد أن أوهمهم بأنه هو ربهم الأعلى! فلم يكن يريهم إلا ما يرى! (فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى!)(النازعات: 23-24) ومن هنا لما خالفه قائل الحق من رجاله نطق بقوة فقال، كما حكى الله تعالى عنه: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَاد!ِ)(غافر:29). فكان بذلك مثالا لكل طغيان وتأله وتجبر! (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْييِ نِسَاءَهمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ!)(القصص:4).
إنه قهر القوة والسلطان الباطل، الذي يصنعه - فقط - سحر الكلام! وانظر إن شئت إلى هذا البيان السحري الرهيب! الذي ألقاه فرعون على قومه من بعد ما زلزلت عرشَه آياتُ موسى عليه السلام؛ قال تعالى: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ!؟ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ؟ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ!)(الزخرف:51-54). وتأمل جدا ما أعقب الله به خطاب فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ!) فهو إنما استخف في الواقع عقولهم!
ولقد قرأت قصة طريفة مترجمة عن الكتابة الفرعونية القديمة رواها أحد أطباء فرعون. وذلك أنه تسلط ذات يوم على أحد الأغنياء فأراد أن ينتزع منه ضيعته، فلما أبى أن يتنازل عنها نكل به فرعون تنكيلا! فقطع أيديه وأرجله من خلاف، وألقاه على حافة الطريق! فصادف أن كان الطبيب مارا بعربته فوجده يئن في الظلام، فلما عرفه رَقَّ لحاله وحمله إلى بيته، ثم عالجه من آثار جروح البتر. ثم انقطعت صلته به بعد ذلك إلى أن مات فرعون. ولما كان يوم مراسم التحنيط والدفن على - عادة قدماء المصريين - والكاهن يلقي كلماته في رثاء فرعون، بما يصبغه عليه من رداء الربوبية المزيفة، والألوهية المدعاة، والعظمة المكذوبة! ويذكر من شيمه ما لا قِبَلَ للبشر به! إذا بالطبيب يجد من بين الحاضرين الرجل الغني الذي نكل به فرعون من قبل، وقطع أيديه وأرجله من خلاف، وجده يبكي بحرارة ويقول: ما كنتُ أعلم أن فرعون كان إلها مقدَّساً إلى هذا الحد! وكأنما يبكي ندما على ما فرَّطَ في جنب فرعون، ولم يكن له من الطائعين ومن عباده الصاغرين!
إن الرصيد الأسطوري الذي كان لدى فرعون مما تركه سدنة الفراعنة هو الذي به حكم كل فرعون في التاريخ مملكته. إنه سحر الكلام، أو قل إنها (سلطة الإعلام)! وليست مفاهيم "الحداثة"، و"حرية المرأة"، و"الديموقراطية الليبيرالية" اليوم، أو "العدالة المطلقة"، و"الشرعية الدولية"، وما شابهها من مقولات ساحرة؛ إلا وسائط إعلامية أنتجها كهنة العصر الكبار؛ للتمكين للمستكبرين وتحقيق غطرسة المتغطرسين وتمديد ظلمهم العتيد! إن الإنسان لما يتوهم أنه مغلوب على أمره، أو أنه لا يستحق أن يكون حرا؛ يخضع بصورة تلقائية لمن غلبه بهذه الأكذوبة!
إن الأسلحة الفتاكة الرهيبة اليوم، مما اسْتُعْمِلَ ويُسْتَعْمَلُ في الحروب المعاصرة؛ ما كان لها أن تفعل في الإنسان فعلها؛ لولا أن الفراعنة الجدد سحروا أعين الناس واسترهبوهم! سواء في ذلك جنودهم وضحاياهم جميعا! فقد سحروا أولئك بما أوهموهم من أنه (عمل صالح) فنفذوه! وسحروا هؤلاء بما أوهموهم من أنه لا طاقة لهم بها! فكان لها ما كان من تأثير وتخدير، ثم تدمير! إنها قوة الكلمة! وإنه سِحْرُ الكلام!
من هنا كانت معجزة هذا العصر هي القرآن! القرآن بما يملكه من قوة خارقة في تحرير الإنسان من عبودية الشهوات التي تـثقله إلى التراب، وتملي عليه تقديس الحياة الفانية، وتخضعه لمن يهدده بالقتل والتشريد فيها. القرآن بما يملكه من سلطان رباني على النفوس يجعلها تبصر حقيقة أنه: لا إله إلا الله الواحد القهار! حركةً حيةً أبديةً في الكون وفي التاريخ! وأن كل استكبار من دونها هو محض افتراء وهراء! القرآن بما له من خاصية التحويل الوجداني العميق لمسار الإنسان؛ من جِرْمٍ جزئي ضئيل يدور في فَلَكٍ قصير من متاع الدنيا الشهواني؛ إلى كائن كوني كبير يدور في فَلَكِ الملكوت الرباني الفسيح، في سيره العظيم إلى الله.. حيث يرى - بعين القرآن واستعلاء الإيمان - كيف أن كيد الشيطان كان ضعيفا حقَّ ضعيف! وكيف أن المعركةَ كونيةٌ، يقودها الله رب العالمين! ويدرك آنئذ أن سباع العولمة الطاغية، التي أرهبت العالم بجيشها وسلاحها؛ مجرد نمور من ورق! متى أُهْرِقَ عليها ماء القرآن ذابت في الطين!
نعم، لا فكاك من أكاذيب الكلام وسحره إلا بجهاد ونضال مستميتين؛ لأن كسر أغلال السحر لا بد فيه من تضحية، ولكن؛ لا وسيلة لذلك كله إلا بإنتاج كلام مضاد لذلك السحر ومغالب له! كلام يصنع رجالَ القرآن ويُعِدُّهُمْ إعدادا! الرجال الذين يرون الحقائق كما هي في الطبيعة، لا كما يصورها السحرةُ الكبار في خطاب العولمة، المحيط بفضاء المستضعفين إيهاما وتوهيما! ذلك هو الأساس الذي لا يُفْعَلُ شيء في الوجود إلا به! حتى إذا غلبه تمكَّن من نشر سلطانه عليه وقهره. إنه إذن جهاد المقولات والمفاهيم، في معركة عَقَدِيَّةٍ كبرى بين عقيدة الإسلام؛ وإديولوجيا العولمة العلمانية المتوحشة! معركة رفع فيها (النظام العالمي الجديد) راية كلمة الدجل المضللة، ورفع القرآن فيها راية (كلمة الله). ومن هنا قول الله تعالى في بصيرة عظمى من بصائر الآيات، في سياق الحديث عن حجية القرآن العظيم: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا!)(الفرقان:52).
وبهذا المنطق الصادق الصريح كان القرآن هو الذي يصنع السلام العالمي بحق! إن السلام لن تصنعه غطرسة أمريكا وأحلافها؛ ولا جبروت الكيان الصهيوني، وما ينتجه في العالم كله من خراب ودمار. ما كان للظالم - أبَداً - أن يصنع المحبة والسلام! فالنار لا تنتج إلا اللهيب والدخان! وأدرى الناس بهذه الحقائق هو الظالم نفسه! ولكنه سحر الكلام، ودجل الإعلام، يجعل السم القاتل عسلا شافيا؛ فيأكله الضحية بيده مختاراً! تماما كما أكل آدم الفاكهة المحرمة مختاراً! ذلك هو أسلوب الشيطان، ومنطق الباطل أبداً عبر التاريخ!
إن السلام العالمي لن يكون إلا وليد النور الإلهي، النور الذي يشرق في قلوب المؤمنين بالخير والجمال؛ بما يسكبه القرآن في وجدانهم، من معاني الحق والعدل والحرية! ودون ذلك معركة يخوضها القرآن بكلماته ضد كلمات الشيطان! وإلا بقيت البشرية اليوم تغص حلاقيمها بفاكهة آدم إلى يوم الدين! والقرآن وحده يكشف شجرة النار ويتلف فاكهتها الملعونة!
إن هذا القرآن كلام غير عاد تماما، إنه كلام خارق قطعا، ليس من إنتاج هذه الأرض ولا من إنتاج أهلها، وإن كان عليهم تنـزل ومن أجلهم تلي في الأرض. إنه كلام الله رب العالمين! الذي قال: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(الزمر:67). إنه الكلام الذي لم يملك قَبِيلُ الجن إذ سمعوه إلا أن: (قالوا أَنْصِتوا! فلمَّا قُضيَ ولَّوا إِلى قومهم مُنْذرين. قالُوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى مصدِّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيم!)(الأحقاف:29-30). وقالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا! يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً!)(الجن:1-2).
إن كلمات هذا القرآن – لو تعلمون! - قد تَنَـزَّلَتْ من السماء محملة بقوة غيبية أقوى مما يتصوره أي إنسان؛ لأنها جاءت من عند رب الكون، تحمل الكثير من أسرار الملك والملكوت، وهي جميعها مفاتيح لتلك الأسرار؛ بما فيها من خوارق وبوراق لقوى الروح القادمة من عالم الغيب إلى عالم الشهادة! وتدبر قول الله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤوا ظُلْمًا وَزُورًا. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)(الفرقان:4-6). إن الذي يظن أنه عندما يقرأ القرآن يقرأ كلاما وكفى، تمضي كلماته مع الهواء كما تمضي الأصوات مع الريح؛ فإنه لا يقرأ القرآن حقا ولا هو يعرفه بتاتا! وإنما الذي يقرؤه ويتلوه حق تلاوته إنما هو الذي يرتفع به، ويعرج عبر معارجه العليا إلى آفاق الكون! فيشاهد من جلال الملكوت ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر! وهنالك يتكون ومن هنالك يتزود! فآهٍ ثم آهٍ لو كان هؤلاء المسلمون يعلمون! وصدق الله جل وعلا إذ قال: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِب
أبوأسامة مبارك
أبوأسامة مبارك
Admin

عدد المساهمات : 439
تاريخ التسجيل : 24/12/2008
العمر : 53

https://tiabinet.forumactif.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى