بوابة أحد بوموسى نيوز


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

بوابة أحد بوموسى نيوز
بوابة أحد بوموسى نيوز
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مجالس القران لفريد الانصاري رحمه الله تعالى (4)

اذهب الى الأسفل

مجالس القران لفريد الانصاري رحمه الله تعالى (4) Empty مجالس القران لفريد الانصاري رحمه الله تعالى (4)

مُساهمة من طرف أبوأسامة مبارك الأربعاء يناير 05, 2011 7:49 am

جُلَسَاءُ الْمَلائِكَة !
"الْجُلَسَاءُ": جمع "جَلِيس"، وهو الشخص الذي يجلس إليك في مجلس واحد؛ بقصد الاجتماع على حديث ما أو فعل ما. ولذلك قال الشاعر:
وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمَانِ كِتَابُ!
تلك حكمة قيلت بالنسبة لأي كتاب. فما بالك إذن بمجلس يكون فيه كتاب الله – جل ثناؤه – هو جليسك! ثم ما بالك بمجلس يكون فيه " أهل الله وخاصته" هم جلساءك! ثم ما بالك به - بعد هذا وذاك – إذا كان الملائكةُ هم زواره وحُضَّاره!
لا شك أن ذلك مجلس تشد إليه الرحال، وتقطع في سبيله المسافات والأميال! لأنما هو مجلس يتضوع منه مِسْكُ الروح؛ بِمَا حضره من أهل الله وملائكته! وبِمَا تَنَـزَّلَ عليه من رحمته وبركاته..! وإنَّ قوماً من بني آدم يحضرون مجلساً تشهده الملائكةُ هم في الحقيقة (جُلَسَاءُ الْمَلائِكَةِ)! ومَنْ جَالَسَ قوما فهو منهم! وما أجمل تعبير النبيe في مَثَلٍ ضَرَبهُ لجلساء الخير وجلساء الشر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما مَثَلُ الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المِسْكِ ونافخ الكير، حاملُ المسك إما أن يُحْذِيَكَ، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة! ونافخُ الكير إما أن يحرق ثيابَك، وإما أن تجد ريحا خبيثة!)( ) ولَمَجْلِسٌ يجتمع فيه الناس على القرآن خيرٌ من الدنيا وما فيها! كما سترى بحول الله. فأبشروا (جُلَساءَ الملائكةِ) بالخيرات والبركات!
ومن هنا؛ كانت مجالس القرآن هي خير أنواع مجالس الذكر، التي تضافرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها محبوبة عند الله، مذكورة في ملئه الأعلى، تشهدها الملائكة، وتنـزل عليها السكينة، وتغشاها الرحمة، ويذكرها الله في من عنده. وليس شيءٌ أفيدَ منها في تربية الإنسان المسلم على الصلاح والفلاح. وهي من أهم الوسائل التربوية التي لا غَبَشَ فيها ولا غبار، من حيث استنادها إلى الأدلة المتواترة بالمعنى، عبر الأحاديث الوفيرة المستفيضة. نذكر منها الحديث المشهور، الذي رواه أبو هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والذي فيه: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه!)( )‌
وكذلك الحديث المتفق عليه، الذي رواه أبو هريرة أيضا، مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض، فضلا عن كتاب الناس، يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذِّكْر، [وفي رواية مسلم: مجالسَ الذِّكْر] فإذا وجدوا قوما يذكرون الله [وفي رواية مسلم: فإذا وجدوا مَجْلِساً فيه ذِكْرٌ] تنادوا‌:‌ هلموا إلى حاجاتكم! فَيَحُفُّونَهُمْ بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم‌:‌ ما يقول عبادي‌?‌ فيقولون‌:‌ يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. فيقول‌:‌ هل رأوني‌?‌ فيقولون‌:‌ لا والله ما رأوك. فيقول‌:‌ كيف لو رأوني‌?‌ فيقولون‌:‌ لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا. فيقول‌:‌ فما يسألونني‌?‌ فيقولون‌:‌ يسألونك الجنة. فيقول‌:‌ وهل رأوها‌?‌ فيقولون:‌ لا والله يا رب ما رأوها. فيقول‌:‌ فكيف لو أنهم رأوها‌?‌ فيقولون‌:‌ لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة. قال‌:‌ فمم يتعوذون‌?‌ فيقولون‌:‌ من النار. فيقول الله‌:‌ هل رأوها‌?‌ فيقولون‌:‌ لا والله يا رب ما رأوها. فيقول‌:‌ فكيف لو رأوها‌?‌ فيقولون‌:‌ لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة. فيقول:‌‌ فأشهدكم أني قد غفرت لهم! فيقول ملك من الملائكة:‌ فيهم فلان، ليس منهم، إنما جاء لحاجة‌!‌ فيقول‌:‌ هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم!)( )
ولم يزل هذا المنهج هو أساس التربية لدى أصحاب رسول اللهe بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، سواء في تزكية أنفسهم وتذكيرها، أو في تربية الجيل الناشئ من التابعين. فقد (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى [يعني: الأشعري رضي الله عنه]، وهو جالس في المجلس: "يا أبا موسى، ذَكِّرْنا رَبَّنا! يقرأ عنده أبو موسى، وهو جالسٌ في المجلس، ويَتَلاحَنٌ!)( ) والتَّلاحُنُ: التغني بالقرآن والتحبير. وعن أبي رجاء العطاردي رحمه الله، قال متحدثا عن شيخه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (تعلمنا القرآن في هذا المسجد - يعني مسجد البصرة - وكنا نجلِسُ حِلَقاً، حِلَقاً، وكأنما أنظر إليه بين ثوبين أبيضين، وعنه أخذت هذه السورة: «اقرأ باسم ربك الذي خلق». قال: وكانت أول سورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم)( ). والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثير.
فاُسْلُكْ نفسَكَ وصاحبَكَ في مجلس من "مجالس القرآن"، وسِرْ من خلاله إلى الله. فذلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تلقين صحابته صفات الصلاح، ومقومات الإصلاح.
تَتَبَّعْ - لبناء النفس وتربيتها - منهج القرآن كما عرضه القرآن! وهو – على الإجمال - ثلاث خطوات قابلة للتفصيل، وهي: التلاوة بمنهج التلقي، والتعلم والتعليم بمنهج التدارس، ثم التزكية بمنهج التَّدَبُّر. فذلك ما ذكره الله - سبحانه وتعالى – بإجمال، عند تحديد وظائف النبوة الثلاث. وهي المذكورة في قوله جل ثناؤه: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)(آل عمران:164) وقوله سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)(الجمعة:2). وتلك هي استجابة دعوة إبراهيم عليه السلام لهذه الأمة، بما ورد في قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)(البقرة:129).
التلاوة، والتعليم، والتزكية هي الأصول الكلية لمهمة الرسالة، وهي المراحل الأساسية لبناء النفس المؤمنة، وتكوين النسيج الاجتماعي الإسلامي. إلا أنها مراحل متداخلة في عملية الاشتغال بالقرآن الكريم لهذا الغرض، إذ يصعب القول بأنها منقطعة مبتوتة المفاصل، بل هي متواصلة، يكمل آخرُها أولَها، ويرفد أولُها آخرَها؛ إذ تجد بدايات اللاحقة منها منذ الشروع في السابقة، وتجد آثار السابقة مستمرة في اللاحقة! وإنما تتميز عن بعضها بالغلبة ليس إلا. وبيانها كما يلي:
الخطوات المنهجية الثلاث لتدارس القرآن
الخطوة الأولى: تلاوة القرآن بمنهج التلقي
- فأما الخطوة الأولى فهي التلاوة: وهي بركة وزكاة في نفسها، فقد ثبت الأجر على كل حرف تتلوه من القرآن الكريم، فعن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب اللَّه فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)( ). ولذلك كان لقارئ القرآن ما وعده الله إياه، من رفيع المنازل في الجنان العالية، وما أسبغ عليه من حُلَلِ الجمال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن ‌:‌ اقرأ وَارْقَ! ورَتِّلْ كما كنت ترتل في دار الدنيا! فإن منـزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها!)( ). فلا تنس هذا.
والله عز وجل أمر بالتلاوة للقرآن في غير ما آية. قال سبحانه: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا)(الكهف:27). وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ)(فاطر:29). وقال: (لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)(آل عمران:113). وقال تعالى: (وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً)(المزَّمِّل:4)، ثم قال: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنَ)(المزمل:20). وفي الحديث الصحيح: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)( ).
إلا أن التلاوة إنما تكون بما وُصِفَتْ به من البركة والتأثير الإيماني؛ إذا أُخِذَتْ بما أسميناه بـ(منهج التلقي للقرآن العظيم)، حيث يؤخذ القرآن بحضور قلبي، وتُتْلَى آياتُه على أنها ذِكْرٌ لله جل جلاله. وبيان ذلك هو كما يلي:
لا شك أن القرآن العظيم رأس الذِّكْر، ومفتاح الذكر، وتاج الذكر. بل القرآن هو الذكر! قال سبحانه: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ!)(القلم:51-52).
والقرآن أيضا به يكون الذكر! قال سبحانه: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)(سورة ص:1). والفتنة حينما يطوف بها الشيطان في كل مكان؛ يعمي بها البصائر، فيحفظ الله الذاكرين! قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)(الأعراف:201).
الإشكال الآن هو: كيف نُحَصِّل الذكر بالقرآن؟
هذا هو السؤال الأهم الآن؛ لأنه ليس كل قارئ للقرآن هو بذاكر!
تبصرة: في أخذ القرآن بمنهج "التَّلَقِّي"
كثيرون هم أولئك الناس الذين يتلون القرآن اليوم، أو يستمعون له على الإجمال، على أشكال وأغراض مختلفة. ولكن قليل منهم من " يَتَلَقَّى" القرآن!
وإنما يؤتي القرآنُ ثمارَ الذكر حقيقةً لمن تَلَقَّاهُ! وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَلَقَّى القرآن من ربه. قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)( النمل:6).
ولا يزال القرآن معروضا لمن يتلقاه، وليس لمن يتلوه فقط!
والتلقي في اللغة: هو الاستقبال عموما. كما في قول الله تعالى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)(الأنبياء:103)( ).
وأما تلقي القرآن: فهو استقبال القلب للوحي. إما على سبيل النبوءة، كما هو الشأن بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم. على نحو ما في قول الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)( النمل:6). إذ ألقى الله عليه القرآن بهذا المعنى! كما فسره الراغب الأصفهاني من قوله تعالى: (إنا سَنُلْقِي عليك قولا ثقيلا)(المزمل:5) قال رحمه الله: (إشارة إلى ما حُمِّلَ من النبوة والوحي!)( ).
وإما أن يكون (تلقي القرآن) بمعنى: استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ.
وهو عام في كل مؤمن أخذ القرآن بمنهج التلقي على ما سنبينه بعدُ بحول الله. فذلك المنهج هو الذي به تنبعث حياة القلوب. لأنها تتلقى آنئذ القرآن (روحا) من لدن الرحمن. قال تعالى: : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا. مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ. وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(الشورى:52-53).
وتلقي القرآن بمعنى استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ؛ إنما يكون بحيث يتعامل معه العبد بصورة شهودية، أي كأنما هو يشهد تنـزله الآن غضا طريا! فيتدبره آيةً، آيةً، باعتبار أنها تنـزلت عليه لتخاطبه هو في نفسه ووجدانه، فتبعث قلبه حيا في عصره وزمانه! ومن هنا وصف الله تعالى العبد الذي "يتلقى القرآن" بهذا المعنى؛ بأنه يُلْقِي له السمع بشهود القلب! قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(ق:37). ذلك هو الذاكر حقا، الذي يحصل الذكرى ولا يكون من الغافلين.
أن تتلقى القرآن: معناه إذن أن تصغي إلى الله يخاطبك! فتبصر حقائق الآيات وهي تتنـزل على قلبك روحا. وبهذا تقع اليقظة والتذكر، ثم يقع التَّخَلُّقُ بالقرآن، على نحو ما هو مذكور في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لما سئلت عن خُلُقِه صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: (كان خُلُقُهُ القرآنَ!)( ).
وأنْ تتلقى القرآن: معناه أيضا أن تتنـزل الآيات على موطن الحاجة من قلبك ووجدانك! كما يتنـزل الدواء على موطن الداء! فآدم عليه السلام لما أكل هو وزوجه من الشجرة المحرمة؛ ظهرت عليهما أمارة الغواية؛ بسقوط لباس الجنة عن جسديهما! فظل آدم عليه السلام كئيبا حزينا. قال تعالى: (فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا! وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ. وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)(طه:121). ولم يزل كذلك حتى (تلقَّى) كلمات التوبة من ربه فتاب عليه؛ فكانت له بذلك شفاءً! وذلك قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم)(البقرة:37). فهو عليه السلام كان في حاجة شديدة إلى شيء يفعله أو يقوله؛ ليتوب إلى الله، لكنه لا يدري كيف؟ فأنزل الله عليه - برحمته تعالى - كلمات التوبة؛ ليتوب بها هو وزوجه إلى الله تعالى. وهي – كما يقول المفسرون - قوله تعالى: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(الأعراف:23) فبمجرد ما أن تنـزلت الآيات على موطن الحاجة من قلبه؛ حتى نطقت بها الجوارح والأشواق؛ فكانت له التوبة خُلُقاً إلى يوم القيامة! وكان آدم عليه السلام بهذا أول التوابين! وذلك أخذه كلمات التوبة على سبيل (التلقي): (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ)!
فعندما تقرأ القرآن إذن استمع وأنصت! فإن الله جل جلاله يخاطبك أنت! وادخل بوجدانك مشاهد القرآن، فإنك في ضيافة الرحمن! هناك حيث ترى من المشاهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!
فاقرأ إذن كما استطعت وتعلم؛ لكن بحضور قلبي تام؛ كي تتزكى. فقد رأيت أن التلاوة بدء فعله صلى الله عليه وسلم من التعليم والتزكية، كما مر في قوله تعالى: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). فالتلاوة نور في نفسها. إنها - لو أبصرتها حقا - صلة مباشرة برب العالمين؛ ذكرا ومناجاة. إن العبد التالي لكتاب الله متكلم بكلام الله. وهذا وحده معنى عظيم في نفسه، فتدبر! وهو يمهد القلب ويهيئه للخطوات التربوية التالية.
الخطوة الثانية: التعلم والتعليم بمنهج التدارس
- وأما الخطوة الثانية فهي التَّعَلُّم والتَّعْلِيم: وذلك لأحكام القرآن العظيم وحِكَمِه. إذْ خَيْرُ العلم إنما هو العلم بالكتاب، فعن عقبة بن عامر الجهني قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصُّفَّةِ فقال: أيُّكُمْ يحب أن يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إلى بُطْحَانَ أو العَقِيقِ؛ فيَأْتِيَ مِنْهُ بنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ( )، يَأخُذُهُمَا بغير إثْمٍ بالله عز وجل، ولا قَطْعِ رَحِمٍ؟ قالوا: كُلُّنَا يا رسولَ الله! قال: فَلأَنْ يَغْدُوَ أحدُكُم كلَّ يَوْمٍ إلى المسْجِدِ؛ فيَتَعَلَّمَ آيتين من كِتَابِ الله عزَّ وجلَّ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ناقتين! وثَلاثٌ خيرٌ له من ثلاثٍ، وأرْبعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أرْبعٍ! ومِنْ أعْدَادِهِنَّ مِنَ الإبِلِ!)( )
وتحصيل العلم بالكتاب للنفس أو تلقينه للغير، إنما يكون بمنهج الدراسة والتدارس لآياته وسوره مبنى ومعنى؛ لقول الله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آل عمران:79). فقد قُرِئَتْ (تَعْلَمُونَ) و(تُعَلِّمُونَ) فهي عملية مزدوجة، الجمع بين شقيها في الفهم والعمل أولى: التَّعَلُّم والتَّعْلِيم. وأقل ذلك أن تكون أحَدَهما: معلما أو متعلما. بيد أن العلم ههنا إنما هو ما أفاد العمل. على قاعدة علماء مقاصد الشريعة: أن (كل علم ليس تحته عمل فهو باطل). وعلى هذا يحمل قولهe: (إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالما أو متعلما!)( ) وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يبعثني مُعَنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً؛ ولكن بعثني مُعَلِّماً مُيَسِّراً)( ). أي: معلما أعمال الخير والصلاح للعالمين، بمنهج حكيم.
فالمقصود بقوله تعالى: (تَدْرُسُون) - من آية آل عمران المذكورة - يعني تدرسون الكتابَ نفسه، على اعتبار أن الدراسة والتدارس أو المدارسة هي منهج التعلم، كما ذهب إليه الإمام الطبري رحمه الله( ). والتدارس للقرآن الكريم هو المنهج التعليمي الكفيل بالوصول بالدارس إلى الحكمة، التي بمقتضاها يصير (ربانيا). وقد روى ابن جرير الطبري رحمه الله – عن ابن عباس وعدد من التابعين - تفسير (ربانيين) في الآية؛ بأنهم: (الحكماء الفقهاء)( ).
فالدراسة والتدارس إذن: هو تتبع صيغ العبارات، ووجوه المعاني والدلالات للمقاصد والغايات، من كل آية وسورة، وتعلُّم ذلك كله ترتيلا وتفسيرا، بما فيه ضبط ألفاظه وآياته وسوره؛ للتعرف على أسراره وحِكَمِه. وذلك جماع ما كان يفعله جبريل عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليالي رمضان، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس! وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فَيُدَارِسُهُ القرآنَ، فَلَرسُولُ اللهe أجودُ بالخير من الريح المرسلة!)( ) وهو ما ذكرنا من قوله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آل عمران:79). وذلك تفسير قوله تعالى - من آيات وظائف النبوة - (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). وفُسِّرت الحكمةُ بأنها: (شيء يجعله الله في القلب ينور له به!)( ).
ويجمع المرحلتين المذكورتين قبل، أعني: (التلاوة، ثم التعلم والتعليم بمنهج التدارس) ما جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلَى النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسّنّةَ. فَبَعَثَ إلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ. يُقَالُ لَهُمُ الْقُرّاءُ. فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ. يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللّيْلِ يَتَعَلّمُونَ)... الحديث( ). فالتدارس هو أساس التعلم كما في هذا الحديث، إذ لا علم إلا به، فأنت تبحث عن وجوه المعاني وتتدارسها؛ لتتعلم أحكامها ومقاصدها. وذُكِرَ التدارسُ أيضا في الحديث النبوي الشريف، من قوله عليه الصلاة والسلام: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)( ).
الخطوة الثالثة: التزكية بمنهج التََّدَبُّر
- وأما الخطوة الثالثة فهي التزكية بمنهج التََّدَبُّر:
والتزكية: هي عملية التطهير للنفس، والتربية لها بما يخلصها من مراعاة غير الله، للوصول بها إلى منـزلة الإخلاص! قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)(الشمس:9-10). وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وَيُزَكِّيهِمْ): (يعني بالزكاة: طاعة الله والإخلاص)( ). ولذلك فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان حريصا على تطهير صحابته من الأهواء، والارتقاء بهم عبر مدارج الإيمان، إلى ما هو (أحسن عملا). ولا أحسن من تخليص العبودية لله الواحد القهار، وتعبيد القلب له وحده دون سواه.
وانظر - رحمك الله - كيف ذكر التزكية قبل التعليم في الآيتين من آل عمران والجمعة، مع أنه لا تزكية بغير تعليم ابتداء، على ما ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه قال: (باب العلم قبل القول والعمل). وقد قُدِّمَ ذِكْرُ التعليم على التزكية - بناء على الأصل - في قوله تعالى من دعوة إبراهيم: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)(البقرة:129).
صحيح أن العطف بالواو - في الآيات كما هو في العربية - لا يفيد الترتيب، لكن التقديم والتأخير في البلاغة يفيد الأهمية؛ ومن هنا جاءت التزكية في الآيتين الأوليين مقدمة على التعليم؛ من باب ذكر المقاصد قبل الوسائل؛ لشرف الغاية وعلوها؛ وحتى لا يفتتن السائر بالوسيلة عن الغاية؛ فيضل عنها، ويكون من الخاسرين.
وإذا كانت التزكية تربيةً وتنمية لعناصر الخير والإيمان في الإنسان حتى يصفو القلب لله وحده؛ فإنها إذن تحصيل مرتبة النفس الزكية، المتخلقة بالقرآن. وهذا أمر يبدأ في الحقيقة منذ اللحظات الأولى لشروع العبد في الاشتغال بكتاب الله تعبدا. أي منذ بدء عملية التلاوة أو عملية الاستماع للقرآن الكريم بمنهج التلقي، ثم عملية التعلم بمنهج التدارس. وليست التزكية متوقفة على الدخول في مرحلة منفصلة تمام الانفصال، كما بيناه قبل. وإنما التزكية هي عملية متواصلة، تنطلق بانطلاق الدخول في العتبات الأولى للقرآن الكريم تلاوةً وترتيلا، ثم تعلما وتعليما، وتدارسا وتدريسا، ثم يكون من المؤمن آنئذ ما يكون من التزكية المنمية لعناصر الخير فيه؛ فإذا به كحقل القمح الصالح يفيض بالرزق الوفير والبركات! وما أدق وصف النبي صلى الله عليه وسلم لأحوال الناس إزاء الهُدَى، فيما ضربه لذلك من مثل عجيب! قال عليه الصلاة والسلام: (مَثَلُ ما بعثني الله به من الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكثير، أصَابَ أرضاً فكَانَ منها طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ والعُشْبَ الكثير. وكانتْ منها أَجَادِبُ أمْسَكَتِ الماءَ، فنَفَعَ اللهُ بها الناسَ، فشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا. وأصابَ منها طائفةً أخرى إنما هي قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ ماءً، ولا تُنْبِتُ كَلأً ! فذلك مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ الله ونَفَعَهُ ما بعثني الله به؛ فَعَلِمَ وعَلَّم! وَمَثَلُ مَنْ لم يَرْفَعْ بذلك رَأْساً، ولم يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الذي أُرْسِلْتُ به!)( )
فهذه إذن أصناف ثلاثة: الصنف الأول منها: هو حال من قَبِلَ الهدى وتفقه في الدين؛ حتى كان منه ما كان من الصلاح لنفسه والإصلاح للناس؛ فانتفع هو ونفع الله به غيره! وهو أحسن الأصناف؛ لأنه أوعى قلبا، وأبْعَدُ أثرا، وأدْوَمُ فضلا. والصنف الثاني: هو حال من آمن ولم يتفقه في الدين، لكنه أسهم في نقل الخير – مما سمع وتعلم - إلى الناس، فكان منهم الذين يتدارسونه ويتفقهون فيه. وأما الصنف الأخير فهو حال من أعرض عن الوحي، ولم يقبل هدى الله؛ فكان من الخاسرين!
فالصنف الأول إذن؛ الذي مَثَلُه مَثَلُ الأرض الطَيِّبَة التي قَبِلَتِ الْمَاءَ – يعني القرآن - فَأَنْبَتَتِ الكَلأ والعُشْبَ الكثير! وذلك بسبب أنه (فَقُهَ في دِينِ الله ونَفَعَهُ ما بعثني الله به؛ فَعَلِمَ وعَلَّم!) كما في الحديث؛ هو الصنف الذي سار في تلقيه عن الله على منهج القرآن مما حُدِّدَ في وظائف النبوة من مراحل، من تلاوة وتدارس؛ لأن بذلك يكون الفقه في الدين أو لا يكون! والـ(فقه) هنا في الحديث ليس بالمعنى الاصطلاحي الضيق، من المعرفة بالأحكام الشرعية التكليفية، بل هو بمعناه القرآني الشامل، الذي يجمع كل معاني العلم بالله، وبالحقائق الإيمانية، وما يقتضيه ذلك كله من الحكمة. وهو مقصود قوله تعالى في الآية: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). ذلك هو الفقه في الدين. وهذا كما تبين إنما هو نتيجة التفاعل مع المراحل الأولى من وظائف النبوة. وهو عين التزكية.
فالتزكية إذن هي أشبه ما تكون بنتيجة للتلاوة والتدارس لكتاب الله. إلا أن هذه النتيجة لن يتم استثمارها على الحقيقة، ولا تحصيلها على التمام إلا إذا الْتُقِطَتْ بمنهج التَّدَبُّر؛ إذ التَّدبُّر – كما سترى بحول الله - هو الذي يورث القلب الاعتبار، ويمنح النَّفْسَ العزيمةَ على الدخول في الأعمال. فالحقائق الإيمانية والحِكَم القرآنية لا تصطبغ بها النفس إلا عند التدبر والتفكر! وذلك هو معنى التخلق بأخلاق القرآن، حيث تصبح تلك الحقائق وتلك الحِكَمُ خُلُقاً طبيعيا للمسلم. على ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه: (كان خُلُقُه القرآن!)( )
والتَّدبُّر وإن كان أمرا ممكنا حصوله مع الخطوتين السابقتين؛ إلا أنه لابد لتحصيل نتائجه التخلقية بصورة تربوية صحيحة، تورث زكاة النفس وجمالها؛ من أن تكون له في النفس والوجدان خطوة خاصة! يتفرغ القلب لها بجامع شعوره وكامل حضوره؛ لاستخلاص الهدايات التي وردت بها الآيات، واستخلاص سُبُلِ التخلق بها! خطوة خاصة تلي عملية التلاوة والتعلم أو التدارس، لكنها لا تنتهي بنهاية المجلس الذي عقدته لهذه الغاية، بل تستمر في النفس حركةً وجدانيةً لا تتوقف أبدا! وتلك هي ثمرة القرآن الكريم التي يتذوقها الربانيون حقا! وهي غاية الوظيفة النبوية من البلاغ الرسالي في قوله تعالى: (وَيُزَكِّيهِمْ).
فما التدبُّر إذن؟ وكيف يكون؟
تقول: تَدَبَّرَ الشيء في - اللغة – يَتَدبَّرُه بمعنى: تَتَبَّعَ دَوَابِرَه، أي نظر إلى أواخره وعواقبه ومآلاته، كيف هو إذا صار إليها؟ وكيف يكون؟ جاء في لسان العرب: (ودَبَّرَ الأَمْرَ وتَدَبَّره: نظر في عاقبته، واسْتَدْبَرَه: رأَى في عاقبته ما لم ير في صدره؛ وعَرَفَ الأَمْرَ تَدَبُّراً أَي بأَخَرَةٍ (...) والتَّدْبِيرُ في الأَمر: أَن تنظر إِلى ما تَؤُول إِليه عاقبته. والتَّدَبُّر: التفكر فيه)( )
أما التَّدَبُّر في الاصطلاح القرآني فهو: أنك إذْ تقرأ الآيات، وتتعلم وتدرس؛ تنظر إلى مآلاتها، وعواقبها في النفس وفي المجتمع؛ فتبصر حقائقها الإيمانية إبصارا؛ فتكتسب بذلك من الصفات الوجدانية، ما يعمر قلبك بالإيمان، ويثبت قدمك في طريق المعرفة الربانية، ويضعك على صراط السير إلى التخلق بأخلاق القرآن. وبيان ذلك هو كما يلي:
إن منطلقك الأساس، في طريق المعرفة الربانية هو: أن تتعرف على القرآن، بل أن تكتشفه. ولذلك جاء الخطاب القرآني يحمل أمْرَ القراءةِ للقرآن؛ تلاوةً وترتيلاً، وأمْرَ التعلمِ للقرآن مدارسةً وتدبرا.
والتدبر هو غاية كل ذلك ونتيجته؛ ولذلك قال عز وجل: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)(سورة ص:29) فجعل غاية الإنزال للقرآن التدبر والتذكر، ولولا التدبر لما حصل التذكر الذي هو يقظة القلب، وعمران الوجدان بالإيمان. فالتدبر هو المنهج القرآني المأمور به لقراءة القرآن العظيم؛ ومن هنا زجره تعالى للناس الذين لا يتدبرونه. قال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(محمد:24)، (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)(النساء:82).
فتدبر القرآن وآيات القرآن إذن: هو – كما ذكرنا - النظر إلى مآلاتها وعواقبها في النفس وفي المجتمع. وذلك بأن تقرأ الآية من كتاب الله، فتنظر - إن كانت متعلقة بالنفس - إلى موقعها من نفسك، وآثارها على قلبك وعملك، تنظر ما مرتبتك منها؟ وما موقعك من تطبيقها أو مخالفتها؟ وما آثار ذلك كله على نفسك وما تعانيه من قلق واضطراب في الحياة الخاصة والعامة؟ تحاول بذلك كله أن تقرأ سيرتك في ضوئها، باعتبارها مقياسا لوزن نفسك وتقويمها. وتعالج أدواءك بدوائها، وتستشفي بوصفاتها.
وأما إن كانت تتعلق بالمجتمع؛ فتنظر في سنن الله فيه كيف وقعت؟ وكيف تراها اليوم تقع؟ وكيف ترى سيرورة المجتمع وصيرورته في ضوئها؟ عند المخالفة وعند الموافقة.. ثم تنظر ما علاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير؟ ثم ما موقع النفس – نفسك أنت! - من هذا كله؟
في الفرق بين التدارس والتدبر:
فتَبَيَّنَ من ذلك كله إذن أن هناك فرقا أساسيا بين التدارس والتدبر، رغم وجود تداخل منهجي بين جميع العمليات والخطوات. فالتدارس: هو عملية تعليمية ذهنية، تشتغل من داخل النص القرآني لاَ خارجه، وينتجها العقلُ في علاقته بنص الخطاب القرآني مباشرةً، وفي ارتباطه بلغته وأساليبه، على قَدْرِ ما تتيحه تلك اللغةُ من مَعانٍ وحِكَمٍ ودلالات. بينما التَّدَبُّر: عمليةٌ قلبية ذوقية محضة. فهي - وإن صاحبت التدارس - واقعةٌ في النفس لا في النص! إنها حركة وجدانية تجري خارج النص القرآني، إنها تتلقى المعاني والحِكَمَ من التدارس، ثم تَدْخُلُ بها إلى أعماق النفس، أو تخرج بها إلى مطالعة أحوال المجتمع؛ لتراقب النفس والمجتمع معاً على موازينها. تُشَخِّصُ الأمراضَ والأسقام الواقعة بهما، ثم تنظر إلى وصفات العلاج التي قدمها لها القرآن: كيف تتعامل معها؟ وكيف تستشفي بها؟ وذلك هو عين التخلق بأخلاق القرآن والتزكية بأنواره. فهذا عملٌ في النفس وفي المجتمع، لا في النص القرآني أساسا، وإن كان مَدارُهُ عليه. وذلك هو المقصود بالتدبر للقرآن في قوله تعالى: (أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآنَ أمْ عَلَى قُلُوبٍ أقْفَالُهَا؟).. والله تعالى أعلم.
وهنا نلج إلى باب آخر من أبواب القرآن رديف للتدبر، بل هو منه. ذلك هو: التَّفَكُّرُ. إن التَّفَكَّرَ غالبا ما يرد مذكورا في القرآن في سياق النظر في خلق الله، والتأمل في بديع صنعه من الْمُلْكِ والْمَلَكُوت، كما في قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِم.ْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ. رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا. رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(آل عمران:190-194) فكل هذه الأدعية العابدة، الحارة، الخاشعة، الباكية؛ إنما هي نابعة عن الإحساس الحاصل للعبد بُعَيد التفكر في خلق الله، فاقرأ الآيات وتدبر.. تجد أن المؤمن لما يسيح في جنبات الكون الفسيح، يشعر بعظمة الله الواحد القهار، وتأخذه الرهبة من جلال ملكه وعظمة سلطانه؛ فيسرع هاربا إلى مساكن رحمته، وجمال غفرانه.
وبما أن القرآن كتاب يحيل المتدبر له على سعة الكون وامتداده الفسيح، ويرجع به إلى كشف كثير من أسرار الوجود، وغرائب الخلق؛ فإن (التدبر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة القرآن؛ يحيل الإنسان على (التفكر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة الكون. فيكون كل متدبر للقرآن متفكرا في الكون. فتقرأ - بقراءة القرآن - كلَّ آيات الله المنظورة والمقروءة سواء.
وبذلك كله يتم لك شيء آخر، هو: الإبصار.
إن التدبر والتفكر كليهما، يعتبران بمثابة الضوء، أو الشعاع المسلط على الأشياء، تماما كما تسلط الشمس أشعتها المشرقة - في اليوم الصحو - على الموجودات، فتبصرها الأعين الناظرة. فكذلك التدبر يكشف حقائق الآيات القرآنية، والتفكر يكشف حقائق الآيات الكونية، حتى إذا استنارت هذه وتلك؛ أبصرها المتدبرون والمتفكرون. وكانت لهم فيها بصائر ومشاهَدات لا تكون لغيرهم. ولذلك قال عز وجل: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)(الأنعام:104). وقال سبحانه: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)(الحشر:2).
هكذا وجب أن تقرأ القرآن آية آيةً؛ اقرأ وتدبر ثم أبصر!.. عسى أن ترى ما لم تر، وتدرك من حقائقه ما لم تدرك من قبل؛ فتكون له متدبرا حقا !
ذلك كله هو أساس التزكية، ومقياس التصفية، ومنهاج التربية، وسلم العروج إلى رضى الرحمن. فاقرأ القرآن، وتدارس، وتدبر ثم أبصر!.. حتى يأتيك اليقين.
فاصبر على هذا المنهج؛ فإن كل آية تسلمك إلى الأخرى، وتفتح لك باب أسرارها وأنوارها؛ فتهبك معرفةً جديدةً بنفسك وبربك، وتبني لك من شخصيتك ما لم تستطع أنت بناءه من قبل؛ لعلة ما، أو لمانع ما! ذلك أن النور الإلهي المتفجر من الآيات – عند تدارسها - بصائرَ للمتدارسين والمتدبرين؛ يتدفق مباشرة على مرايا نفوسهم، فإذا بها مُشِعَّةٌ بنور الإيمان، مُبْصِرَةٌ ببركة القرآن بإذن الله! فتتبع مسالك النور حتى تصل، إن شاء الله.
في المنهج العملي لإقامة مجالس القرآن
تلك إذن هي الصورة العامة لمجالس القرآن العظيم، من حيث فضلها وأثرها التربوي في النفس والمجتمع، ومن حيث وظائفها النبوية، كما تقررت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. بيد أننا ههنا نخلص بحول الله إلى إعطاء صورة تطبيقية عن كيفية عقد مجلس قرآني وإدارته، من بدايته حتى نهايته إن شاء الله. وذلك من خلال عرض مجموعة من الضوابط المنهجية، ذات الطابع التنـزيلي العملي في الغالب. وبيان ذلك هو كما يلي:
ضوابط لإنجاح مجلس التدارس
- الضابط الأول: لابد من تجريد القصد لله! هذا أول الشروط لإنجاح المجلس القرآني؛ حتى يكون مجلسا تحضره الملائكة بإذن الله؛ وتتنـزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، ويذكره الله فيمن عنده! واعلم أن القرآن الكريم لا يفتح بصائره إلا للمقبلين عليه بإخلاص! فلابد من تجديد النية كلما هممت بالخروج إلى مكان المجلس، فهو مجلسُ تَعَبُّدٍ وليس مجلسَ تَعَوُّدٍ! ولا تنس استحضار معنى الحديث النبوي الشريف، الشافي لوساوس الشيطان، الطارد لخبائثه: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى! فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله! ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه!)( ). وتيقن – بعد ذلك - أن ما كان لله خالصا تقبَّلَهُ الله، وحَفِظَ صاحبَه وتولاه! وتيقن أن الله خبير بما توسوس به نفسك، وأنه أقرب إليك من حبل الوريد! فلا يغيب عنه تعالى من خواطرك شيء! فإذا أخلصت له وحده بما تسعى إليه من التدارس والتدبر لكتابه؛ فتح لك من أنوار القرآن ما يشرق على قلبك بمعرفة اللهِ جلَّ جلالُه، ويضيء وجدانَكَ بمحبته تعالى! وذقتَ حقا: ما جمال القرآن العظيم! وشاهدتَ من ملكوته ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر!
ومما يساعد (الجلساء) على تجريد القلب من غير قصد الله، ويُوَطِّنُ النفسَ على إرادة خصوص وجهه الكريم؛ عَدمُ إثقال المجلس بالطعام والشراب، فإن ذلك – إذا ثَقُلَ – مما يذهب ببركة المجلس، ويُضْعِفُ قَصْدَ التعبد فيه؛ وإذن يضيع القصد المحمود، ولا تُنَالُ الغاية المرجوة؛ فلا تكون منه نتيجة تربوية حقيقية. فإن كان ولابد؛ فشاي وحلوى قليلة، أو فاكهة، أو ما شابه ذلك مما لا مُؤْنَةَ فيه ولا كَلَفَة. ومن أراد أن يكرم أصحابه فليكن في غير موعد التدارس!
- الضابط الثاني: تَحَيُّنُ أوقاتِ الانشراح النفسي للقرآن، والإقبال الوجداني على الذِّكْر، ومَظَانِّ اليقظة الإيمانية. فلا تجعل مواعيد التدارس في يوم مكدود، مزدحم بالأشغال من أمور الكسب وأعباء الحياة، فمعنى ذلك عدم ضمان صفاء الذهن وخلو البال! إذِ النفوس المرهقة والأجسام المكدودة لن تشارك في التدارس والتدبر إلا وهي بين اليقظة والنوم! فتضعف الفائدة جدا، إن لم تنعدم! بل يجب تَحَيُّنُ يوم الراحة، وساعات الفراغ، ولحظات الحضور الذهني واليقظة القلبية، من الصباح والمساء.
وقد أشار القرآن الكريم إلى نماذج من أحسن أوقات الذكر، وهي أوقات الغُدُوِّ والآصَال. فالغَدُوُّ أو الغَدَاةُ: هي ساعات أول النهار، من الفجر إلى أوائل وقت الضحى. وأما الآصال فمفرده: أصيل، وهو وقت ما بين العصر إلى الغروب. فهو سويعات آخر النهار، حيث يبرد حر الشمس، وتهدأ أشعتها، وتلين أضواؤها، وتطول الظلال وتمتد. ولذلك كان من أجمل أوقات النهار. وهذان الوقتان (الغداة والأصيل)، أو (الإشراق والعشي) هما من لحظات إقبال النفس وانشراح الصدر، والاستعداد للتدبر والتفكر. ولذلك نبه عليهما الله تعالى في كتابه لهذا الغرض. قال عز وجل: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)(الأعراف:205). وقال سبحانه: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)(النور:36-38). وقال جل ثناؤه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)(الكهف:28).
فإذا لم يكن سبيل إلى عقد مجلس القرآن بأحد هذين الوقتين؛ فليكن بعد المغرب، أي بين العشاءين، وهو وقت داخل أيضا في مسمى (العَشِيِّ)؛ لأن العَشِيَّ في الأصل من العَشْوَةِ وهي: بداية الظلمة، عند إقبال الليل وإدبار النهار( ). ويُتَجَنَّبُ الليلُ والسَّهَرُ ما أمكن، إلا لضرورة! فإن الليل وقت تنهد فيه الأبدان وتخلد إلى النوم، وتسأم فيه النفوس وتميل إلى الارتخاء. وإنما الليل هو الجامع لتعب النهار والْمُفَرِّغُ له! فمن لم يجد عنه بدا فلا بأس به؛ لِمَا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كره السهر؛ إلا لغرض التفقه في الدين والتعلم والتعليم، وهذا منه( ).
فإذا حضر رواد المجلس، وحلَّ وقت التدارس المعلوم؛ فلا بد من:
- الضابط الثالث: وهو مراعاة أدب المجلس، وذلك بالاعتدال في هيأة الجلوس بما يحفظ للعلم وقارَه، وللقرآن جلالَه. وينبغي أن يكون ذلك بصورة تساعد على حسن الاستماع، وكمال الإنصات! فلا يصح التمدد، ولا الاسترخاء، إلا لمريض أو ذي عذر؛ أو الجلوس بهيأة تخالف الآداب الإسلامية والأذواق العامة.
فالمجلسُ إنما هو مجلسُ قرآنٍ وذِكْرٍ لله تعالى، وقد قال سبحانه: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(الأعراف:204). ومما يساعد على ذلك أن يعمد الْجُلَسَاءُ إلى التَّحَلُّقِ في المجلس – ما أمكن - أي جلوسهم على هيأة حلقة، والتقارب بعضهم من بعض؛ لما ثبت في الحديث من فضل التَّحَلُّقِ لطلب العلم والذِّكْر، فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا! قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلَقُ الذِّكْرِ)( ). وعن أنس رضي الله عنه عن النبيe قال: (إن لله سيارةً من الملائكة يطلبون حِلَقَ الذِّكْر!) الحديث( )
وتلك أيضا صورة جلسة التدريس، وهيأة حلقة التعليم لدى الصحابة رضوان الله عليهم. وقد سبق وصفٌ لذلك مما رواه التابعي الجليل أبو رجاء العطاردي - متحدثا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه - قال: (تعلمنا القرآن في هذا المسجد - يعني مسجد البصرة - وكنا نجلِسُ حِلَقاً، حِلَقاً، وكأنما أنظر إليه بين ثوبين أبيضين، وعنه أخذت هذه السورة: «اقرأ باسم ربك الذي خلق». قال: وكانت أول سورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم)( ).
ولابد من مراعاة المرونة في ذلك طبعا، على حسب هندسة البيت، أو طبيعة المكان المجتمع فيه. فإن لم يمكن التَّحَلُّقُ فلا حرج، فإنما القصد التقارب بين الأجسام لتحصيل تقارب القلوب، واشتراكها جميعا في النهل من فيض القرآن، والاستفادة من الأنوار اللطيفة، والبركات الخفية، المتنـزلةِ رحمةً وسكينةً من عند الله!
- الضابط الرابع: عدم الإخلال بمواعيد اجتماعات "مجالس القرآن"، إفراطا أو تفريطا. فلا ينبغي التخلف عن عقد اجتماع واحد على الأقل كل أسبوع؛ حتى لا تَبْهَتَ حقائقُ الإيمان في القلب ولا تَبْلَى. كما لا يحسن الزيادة على ثلاثة اجتماعات على الأكثر في الأسبوع؛ بناء على منهج التَّخَوُّلِ في الموعظة، أي جعل تزود القلب من الإيمان على فترات منتظمة وغير متتابعة،؛ حتى لا يَكَلَّ ولا يَمَلَّ. فعن أبي وائل قال: (كان عبد الله [يعني ابن مسعود رضي الله عنه] يُذَكِّرُ الناسَ في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! لَوَدِدْتُ أنك ذَكَّرْتَنَا كلَّ يوم! قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكْرَهُ أن أُمِلَّكُمْ! وإني أتَخَوَّلُكُمْ بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بها؛ مخافةَ السآمةِ علينا!)( )
ويتفرع عن هذا الضابط ضابط آخر، هو:
- الضابط الخامس: عدم طول وقت المجلس الواحد بما يخرجه عن حده. فقد أثبتت التجربة أن الوقت المخصَّصَ للمجلس إذا تعدى ساعتين من الزمان؛ انصرف الناس عن قصده الأصلي إلى غيره، وربما إلى ضده من ضروب اللغو والغيبة! وتلك خسارة للمجتمعين وأي خسارة! وأقل ما يحصل للناس عموما عند طول المجالس التَعَبٌ المُمِلّ ٌ، والاستثقال الذي يزهدهم في لقاء الحصة المقبلة! وعليه؛ فإذا أكْمَلَ وقتُ اللقاء قرابةَ ساعتين؛ ما بين التلاوة والتدارس والتدبر؛ فيجب ختمه، والانصراف عن المكان المجتمع فيه، على أحسن ما تكون القلوبُ رغبةً في المزيد من الخير؛ لإبقاء نبض الشوق متواصلا إلى لقاء أسبوع قادم.
- الضابط السادس: احترام قواعد تدارس القرآن العظيم مما سبق بيانه مفصلا من التلاوة بمنهج التلقي، والتعلم والتعليم بمنهج التدارس، والتزكية بمنهج التدبر. فالحرص على التزام منهاج النبوة ووظائفها الرئيسة تجاه القرآن الكريم ضمان - بإذن الله - لنجاح العمل التربوي ونضج ثماره. وبهذا نفتح باب الضوابط الخاصة لإدارة المجلس وهي:
- الضابط السابع: مبادرة أحد الجلساء من أهل العلم أو أهل الحِلْم؛ لتسيير المجلس. فلا بد لمجلس الخير من شخص ينظم سيره، ويرتب أولوياته؛ تجنبا للفوضى والارتجال، أو الانزلاق إلى غير أهداف مجالس القرآن العظيم! وقد يكون هذا المسيِّر من أهل العلم، أو من أهل الصلاح والورع عموما، ممن لهم حظ من التجربة في المجال الدعوي والتربوي. وقد صَحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: (المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة!)( )
وقد يكون مَنْ كان سببا في اجتماع المجلس وانعقاده هو من يتولى ذلك؛ بمبادرة منه أو بطلب من إخوانه، أو ربما هو يوكل الأمر إلى من يراه أصلح أو أقوى عليه. ولا مُشَاحَّةَ في هذا، فقد سبق بيان أن هذا البرنامج يصنع أساتِذَتَه! فبعد بضع حلقات من لقاءات المجلس؛ سيكون من أهله - بإذن الله - من تفقه في صناعة التربية، وحِكْمَةِ التوجيه؛ بما للقرآن من قدرة ذاتية على إنتاج أهله! ويكون الإنسان قد سلكت له الطريق إلى الربانية.
إلا أن من أهم الضوابط الأساسية المتعلقة بالْمُسَيِّرِ؛ في إدارة مجالس القرآن ما يأتي:
البقية في الصفحة الموالية
أبوأسامة مبارك
أبوأسامة مبارك
Admin

عدد المساهمات : 439
تاريخ التسجيل : 24/12/2008
العمر : 53

https://tiabinet.forumactif.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى