بوابة أحد بوموسى نيوز


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

بوابة أحد بوموسى نيوز
بوابة أحد بوموسى نيوز
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

حلاوة الإيمان :الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد

اذهب الى الأسفل

حلاوة الإيمان :الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد Empty حلاوة الإيمان :الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد

مُساهمة من طرف أبوأسامة مبارك الخميس نوفمبر 08, 2012 2:23 am

بسم الله الرحمن الرحيم



إن حياة الإيمان تعني الانقيادَ التام والتسليمَ المطلق لله ولرسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها وراءه ظهرياً، وتعني أيضاً الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءاً وإخواناً وأزواجاً وعشيرة، وتعني أيضاً فريضة الصبر على الأذى في الله الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت إلى قمة تحمل الفرائض والواجبات، حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار.
إن العجب العجاب في أمر الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، أنه لا يجعل صاحبه يتحمل الأذى في سبيل الله فحسب، بل يسمو به حتى يحيل هذه الأشياء التي ظاهرها مكروهة للنفس، وتضيق به الضمائر، وتغلق دونه الأرواح، يحيلها إلى أشياء يلتذ بها المؤمنون، فتصبح عليه مثل الماء البارد والطعام المستعذب، وحينها يرى فقراء القلوب أن هؤلاء مساكين لم يجدوا من حلاوة العيش شيئاً ولم يذوقوا لذاتها، وما علموا أن هؤلاء قد حازوا الحلاوة كلها، وأن المحروم كل المحروم من فات من هذه الدنيا ولم يذق أطيب وألذ وأحسن ما فيها، ألا وهو الإيمان بالله وبرسوله.
من رأى منكم غاراً موحشاً قد عفا عليه الزمان وعلاه الغبار من كل مكان، وخالطت الظلمة أرجاءه، ومازجت الوحشة جوانبه وأطرافه، وأحاطت به تلك الحفر التي لا يعلم ما بداخلها أهو خير فينتظر، أم شر فيتقى.
تصور معي ذلك المنظر، ولو قيل لرجل نم في هذا الغار ليلة واحدة ولك كذا وكذا من المال أو من الجاه، لما رضي به ولو أعطي الدنيا، ولكن حينما تكون القضية قضية إيمان ونفاق، قضية إسلام وكفر حينها يستعذب الإنسان كل شيء حتى الحفر المظلمة ما دام معه الإيمان الذي يخالط قلبه، وإذا بالظلمة الموحشة تنقلب مع الإيمان نوراً يضيء جوانب الغار، وإذا بالخوف ينقلب أمناً وطمأنينة لا يثبت بها نفسه فحسب، بل يثبت بها من معه من المؤمنين، وإذا بالصخور تنقلب أرائك يتكئ عليها أو وسائد ينام عليها، وإذا بالحفر المظلمة الموحشة تكون مع الإيمان مصدر أمن وأمان، بل ملجأ يعبد الله فيه وحده لا شريك له، حيث لا رقيب ولا حسيب إلا الله.
تعال معي لنتأمل ذلك المشهد الرائع والموقف الإيماني الذي تتجلى فيه أكمل صور الإيمان، وحيث الغار الذي بات فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ثلاثة أيام، إنه غار ثور، الغار الذي أصبح مخبأ لمن؟ لأشرف مخلوق وأكرم عابد، النبي -عليه الصلاة والسلام- ومعه أكرم إنسان بعد الأنبياء وأفضل أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على الإطلاق، ألا وهو الصديق -رضي الله عنه-. وذلك حينما ذهبَا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاختبآ في غار ثور، ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك يا رسول الله، فإن كان فيه شيء أصابني دونك.
فدخل فكسحه ونظفه ووجد في جانبه ثقباً، فشق إزاره وسدّها به، وبقي منهما اثنان فألقمهما رجليه ثم قال لرسول الله: أدخل، فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووضع رأسه في حجر أبي بكر ونام، نعم نام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقطع عليه نومه، فلما أحس أبا بكر بألم اللدغة سقطت منه دمعة، فإذا هي تسقط أول ما تسقط على وجه محمد -صلى الله عليه وسلم- فاستيقظ رسول الله فقال: ((ما لك يا أبا بكر؟))، فقال: لدغت فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على اللدغة، فذهب ما يجده أبو بكر.
وهكذا مكثا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، حتى بلغ من تحري المشركين عنهم أن وقفوا على حافة الغار، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر ينظرون ما الله فاعل بهم، يقول أبو بكر -وهو خائف على رسول الله-: يا رسول الله، لو نظر أحدهم أسفل قدمه لرآنا، فيرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).
عجيب أمر هذا الإيمان كيف بلغ بأصحابه هذا المبلغ العظيم، بل تجد أصحابه يُؤْذوْن في العيش والراحة، في المطعم والمشرب، في سبيل المحافظة على هذا الإيمان، ولا أجد مثالاً لذلك كمثل أولئك الفتية الذين لجؤوا إلى كهف؛ لأنهم لم يجدوا مكاناً لهم يعبدون الله فيه غير هذا الكهف، فإذا به يكون مسكنهم ومعاشهم ومسجدهم ومكانهم الذي يتعبدون فيه، كل هذا لأجل المحافظة على هذا الإيمان أن تشوبه شائبة أو يدنسه شيء.
إن موقف هؤلاء الفتية يعرض أنموذجاً للإيمان في النفوس المؤمنة، كيف تطمئن به، وتؤثره على زينة الأرض ومتاعها، وتلجأ به إلى الكهف حين يعز عليها أن تعيش به مع الناس، وكيف يرعى الله هذه النفوس المؤمنة ويقيها الفتنة ويشملها بالرحمة: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً* إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً* فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً* ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} [(9-12) سورة الكهف].
إن هؤلاء الفتية الذين لجؤوا إلى الغار ما كانوا ليُذْكَروا في كتاب الله ولا يمتدحوا، لولا أن الإيمان خالط سويداء قلوبهم، ولولا أنهم ضحوا بلذاذة العيش في سبيل المحافظة على الإيمان، لَمَا ذُكروا في كتاب الله، ولماتوا وماتت أخبارهم كما ماتت أخبار أناس كثيرين، لكنهم آثروا الباقي على الفاني، لَمّا علموا أن القضية قضية إيمان وكفر، انكشفت القلوب على شأن عظيم، فإذا هؤلاء الفتية يعتزلون قومهم ويهجرون ديارهم ويفارقون أهليهم، ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاء هم الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم، هؤلاء يستروحون رحمة الله، ويحسون بهذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة، وانظر لتعبيرهم الذي قصه الله لنا: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} [(16) سورة الكهف]، فلفظة {يَنْشُرْ}: توحي بالسعة والبحبوحة والانفساح، وأنى يكون ذلك مع الكهف الضيق الموحش المظلم، إنه الإيمان، نعم الإيمان، فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء، إن الحدود الضيقة لتنـزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق. إنه الإيمان.
ما قيمة الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية؟ وما قيمة المركب الفاره والمسكن الوتير المثير ما دامت القلوب تضيق بالمعصية وضعف الإيمان، أو بالكفر والطغيان؟
إن المسكن الوسيع والمركب الوتير والمال الجم الغفير لا يعني شيئاً ما دامت القلوب ضيقة لم تذق سعة رحمة الله، ولم تذق حلاوة الإيمان به والأنس بذكره وبطاعته، وإن المسكن الضيق والمركب الصغير والمال القليل، بل والكهف الموحش أو الغار المفزع ليصبح جمالاً وأنساً وراحة ما دام القلب يتقلب في محاب الله بين ذكره وشكره، وبين مناجاته ودعائه، {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ* الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [(34-35) سورة الحـج].
إن هذا الإيمان إذا استقر في سويداء القلب ملأ أركانه خشية وإنابة وخوفاً ووجلاً وإخباتاً، فأصبحت به القلوب لا يهمها أين عاشت أبدانها أو سكنت أعضاؤها ما دام القلب يستروح رحمة الله، ويأنس بذكره.
فأي حياة صالحة مليئة بالأنس والراحة ضيعها على نفسه ذلك المعرض عن الله، وكيف أسكن قلبه الحشوش والكهوف وترك الجسد يتنعم بين أريكة وحريرة وقلبه محبوس عن الله.
أرأيتم كيف يفعل الإيمان بأصحابه؟ وكيف يذيقهم لذة الدنيا قبل لذة الآخرة؟ وعلمتم من خلال ذلك أن الإيمان قول وعمل؟ قول القلب واللسان وعمل اللسان والجوارح؟ وأن الإيمان ليس ادعاء باللسان ولا مقالة تقال لا يصدقها عمل؟ كلا وألف كلا.
وليعلم كل مسلم أن الإيمان إذا استقر في القلب وذاق الإنسان حلاوته فإن أثر هذا الإيمان سيظهر أول ما يظهر على الجوارح، ولذلك يجب أن يعلم كل مسلم أن كل مخالفة لله في الظاهر فهي نقص في الإيمان في الباطن ولابد، وحينها نعلم خطأ من يقول -إذا أُنكر عليه في أمر ما وخاصة الأمور الظاهرة-: الإيمان في القلب، أو يقول: التقوى ها هنا وأشار إلى صدره، نعم، الإيمان في القلب ولكن أثره على الجوارح، فلو كمل إيمانك حقاً وصدق يقينك صدقاً لما تجرأت على معصية الله.
فنقول: ما آمن بالله حق الإيمان من عصى الله في لباسه وأكله وشربه، وما آمن بالله حق الإيمان من تناول ما هو حرام عليه، وما آمن بالله حق الإيمان من لا يستحي من نظر الله إليه وهو يعصيه سراً وجهاراً، ولكن الإيمان الحق أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وقد قص النبي –صلى الله عليه وسلم- على الصحابة قصة رجلين مؤمنين، ضربهما مثلاً لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العفاف والزهد والإيثار، فقال –صلى الله عليه وسلم-: ((اشترى رجل من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال للذي اشترى العقار منه: خذ ذهبك عني، إنما اشتريت منك الأرض ولم ابتع منك الذهب، فقال الآخر: إنما بعتك الأرض وما فيها))، قال –صلى الله عليه وسلم-: ((فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ فقال أحدهما: لي غلام. وقال الآخر: لي جارية، قال الحاكم: أنكحوا الغلامَ الجاريةَ، وأنفقوا على أنفسكما منه، وتصدقا)) [رواه مسلم].
هكذا ينتصر الإيمان على الأنانية، ويُحوِّل العبد الضعيف إلى قوة هائلة؛ لأنه يستند إلى ركن ركين, وهو الله تعالى.
والمؤمن القوي هو الذي ينتصر على نفسه أولاً، فيفطمها عما يكره الله وعما حرم الله -عز وجل-، ولا يدع نفسه وهواه يتحكمان فيه ويذلانه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً، وعلينا أن نعلم أنه ليس هناك عمل سيئ نفلت من عقابه في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا عقوبات الذنوب كثيرة، ولو لم يكن هناك غيرها لكفت، وفي الآخرة لن نفلت من العقاب، ولن نقدر على الإنكار، فهناك شهود علينا: ألسنتا , أيدينا , أرجلنا , أبصارنا , أسماعنا, كل جوارحنا، يدعوها الرقيب الحسيب القادر يوم القيامة أن تتقدم لتتكلم، فتشهد علينا بكل ما اجترحنا، {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [(24) سورة النــور].
إن المتبصِّر في أمور الحياةِ وشؤون الأحياءِ يجِد فئاتٍ مِن النّاس تعيش ألواناً من التعبِ والشقاء، وتنفث صدورُها أنواعاً مِن الضّجَر والشّكوى، ضجرٌ وشقاء يعصِف بالأمانِ والاطمِئنان، ويُفقِد الراحةَ والسعادة، ويتلاشى معه الرّضا والسّكينة، نفوسٌ منغمِسةٌ في أضغانِها وأحقادِها وبؤسِها وأنانيّتها.
ويعود المتبصِّر كرّةً أخرى ليرَى فئاتٍ من النّاس أخرى قد نعِمت بهنيءِ العيش وفُيوض الخَير، كريمةٌ على نفوسها، كريمة على النّاس طيّبة القلبِ سليمة الصدر طليقة المحيَّا.
ما الذي فرّق بين هذين الفريقين وما الذي باعَد بين هذين المتباعِدين؟ إنّه الإيمان وحلاوةُ الإيمان، ((ذاق طعمَ الإيمان من رضيَ بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمّد –صلى الله عليه وسلم- رسولاً)) [حديث صحيح رواه ومسلم وغيره من حديث العبّاس بن عبد المطلب].
للإيمان طَعمٌ يفوق كلَّ الطعوم، وله مذاقٌ يعلو على كلّ مذاق، ونشوةٌ دونَها كلُّ نشوة.
حلاوةُ الإيمان حلاوةٌ داخليّة في نفسٍ رضيّة، وسكينة قلبيّة، تسري سَرَيان الماءِ في العود، وتجري جَرَيان الدّماء في العروق، لا أرَقَ ولا قلق، ولا ضِيق ولا تضيِيق، بل سعَةٌ ورحمة ورضاً ونعمة، {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً} [(70) سورة النساء]
الإيمانُ بالله هو سكينةُ النّفس وهداية القلب، وهو منارُ السّالكين، وأمَل اليائسين، وأمانُ الخائِفين، ونُصرة المجاهدِين، وهو بشرَى المتّقين، ومِنحَة المحرومين.
الإيمانُ هو أبو الأمَل، وأخو الشّجاعة، وقرينُ الرجاء، إنّه ثقةُ النّفس، ومجدُ الأمّة، وروحُ الشعوب، وأوّلُ منافِذ الوصولِ إلى حلاوة الإيمان وطَعم السّعادة: الرّضَا بالله عزّ وتبارك ربّاً، ربّاً مدبّراً، فهو القائمُ على كلّ نفسٍ بما كسبَت، رحمنُ الدنيا والآخرة ورحيمُهما، قيّوم السماوات والأرضين، خالق الموتِ والحياة، مُسْبغُ النِّعم، مجيب المضطرّ إذا دعاه، وكاشف السّوء، {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [(50) سورة طـه]، سوّى الإنسان، ونفخ فيه من روحِه، أطعمَه من جوع، وكسَاه من عُري، وآمنه من خَوف، وهداه مِن الضّلالة، وعلّمه من بَعد جَهالة.
إيمانٌ بالله تستسلِم معه النّفس لربّها، وتنـزع إلى مرضاتِه، تتجرّد عن أهوائِها ورغباتِها، تعبدُه سبحانَه وترجوه وتخافه وتتبتّل إليه، بِيده الأمرُ كلّه، وإليه يُرجَع الأمر كلّه.
رضاً بالله ويقين يدفَع العبدَ إلى أن يمدّ يديه متضرِّعاً مخلِصاً: ((اللهمّ إنّي أعوذ برضاك من سخَطك، وبمعافاتك مِن عقوبتِك وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك)).
ومَذاقُ الحلاوة الثّاني: الرّضا بالإسلام ديناً، دينٌ من عندِ الله، أنزله على رسوله، ورضيَه لعبادِه، ولا يقبَل ديناً سواه.
اسمَعوا إلى هذا التّجسيد العجيبِ للرّضا بدين الله، عضِب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مرّةً على زوجته عاتِكة فقال لها: والله لأسوأنّك، فقالت له: أتسطيعُ أن تصرفَني عن الإسلام بعدَ إذ هداني الله إليه؟ فقال: لا، فقالت: بأيّ شيء تسوؤني إذن؟!
الله أكبر، إنّها واثقةٌ مطمئنّة راضية مستكينة؛ ما دام دينُها محفوظاً عليها حتّى ولو صُبَّ البلاء عليها صبَّاً، بل إنّ إزهاقَ الروح مستطابٌ في سبيل الله على أيّ جنبٍ كان في الله المصرَع.
ومذاقُ الحلاوةِ الإيمانيّة الثالث: الرّضا بمحمّد -صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه- رسولاً ونبيّاً، محمّدٌ النّاصح الأمين، والرّحمة المهداة، والأسوة الحسَنَة -عليه الصلاة والسلام-، فلا ينازِعه بشرٌ في طاعة، ولا يزاحِمه أحدٌ في حُكم؛ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [(65) سورة النساء]، الرّضا بمحمّد –صلى الله عليه وسلم- اهتداءً واقتداءً، وبسنّته استضاءةً وعملاً.
إذا صحَّ الإيمان ووقر في القلبِ فاضَ على الحياة، فإذا مشَى المؤمن على الأرضِ مشى سويَّاً، وإذا سار سار تقيَّاً، ريحانةٌ طيّبةُ الشّذى، وشامةٌ ساطعة الضّياء، حركاته وسكناتُه إيمانيّة مستكينة، ((فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمَع به، وبصرَه الذي يبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه)).
من ذاقَ حلاوةَ الإيمان طابَ عيشُه، وعرف طريقَه، ومن عرف طريقَه سار على بصِيرة، ومن سارَ على بصيرةٍ نال الرّضا وبلغَ المُنى.
نَعم، يمضِي في سبيلِه، لا يبالي بِما يلقى، فبصرُه وفكره متعلِّق بما هو أسمَى وأبقى، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [(27-28) سورة الفجر]، {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [(22) سورة الزمر].
هَل رأيتَ زِيّاً ومنظراً أحسنَ وأجمل من سَمت الصّالحين؟ وهل رأيتَ تَعباً ونصباً ألذّ من نعاسِ المتهجّدين؟ وهل شاهدتَ ماءً صافياً أرقَّ وأصفى من دموع النّادمين على تقصيرهم والمتأسِّفين؟ وهل رأيتَ تواضُعاً وخضوعاً أحسنَ من انحناء الراكعين وجِباه السّاجدين؟ وهل رأيتَ جنّةً في الدّنيا أمتع وأطيب من جنّة المؤمن وهو في محراب المتعبِّدين؟ إنّه ظمأ الهواجِر ومجافاة المضاجع، فيا لذّةَ عيشِ المستأنسين، هذه حلاوتُهم في التعبُّد والتحنّث.
أمّا حلاوتُهم في سَبح الدّنيا وكدِّها وكدحِها، فتلك عندهم حلاوةٌ إيمانيّة تملأ الجوانِحَ بأقدار الله في الحياة، اطمئنانٌ بما تجري به المقادير، رضاً يسكن في الخواطِر، فيُقبِل المؤمن على دنياه مطمئنّاً هانئاً سعيداً رضيّاً مهما اختلفت عليه الظروفُ وتقلّبت به الأحوال والصّروف، لا ييأس على ما فات، ولا يفرَح بطَراً بما حصّل. إيمانٌ ورضاً مقرون بتوكّلٍ وثبات، يعتبِر بما مضَى، ويحتاط للمستقبَل، ويأخذ بالأسبابِ، لا يتسخّط على قضاءِ الله، ولا يتقاعَس عن العمل، يستفرغ جهدَه من غير قلَق، شعارُه ودثارُه {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [(88) سورة هود].
موقنٌ أنّ ما أصابَه لم يكن ليخطِئَه، وما أخطأه لم يكن ليصيبَه، لو اجتمع أهلُ الأرض والسماوات على نفعِه بغير ما كتِب له فلن يستطيعوا، ولو اجتَمَعوا على منعِه ممّا قُدِّر له فلن يبلُغوا، لا يُهلِك نفسَه تحسّراً، ولا يستسلِم للخَيبة والخُذلان، معاذَ الله أن يتلمّس الطمأنينةَ في القعودِ والذّلّة والتّخاذل والكسَل، بل كلّ مساراتِ الحياة ومسالكِها عنده عملٌ وبلاء وخير وعدل وميدانٌ شريف للمسابقاتِ الشّريفة، جهادٌ ومجاهدة في رَبَاطة جأش وتوكّل وصبر، ظروف الحياةِ وابتلاءاتُها لا تكدِّر له صفاءً، ولا تزعزِع له صبراً، ((عجباً لأمر المؤمِن، وأمرُه كلّه خير، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابَته ضرّاء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلاّ للمؤمن)).
بالإيمانِ الرّاسخ يتحرّر المؤمن من الخوفِ والجُبن والجزَع والضَّجر، {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [(51) سورة التوبة]. لا مانعَ لما أعطى ربُّنا، ولا معطيَ لما منَع، ولا ينفع ذا الجدِّ منه الجدّ، {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} [(30) سورة الإسراء].
حلاوةٌ ورضاً تقوم في حياة الكِفاح على هذه الأصول والمبادئ، إذا أُعطي تقبَّل وشكر، وإذا مُنع رضِي وصبَر، وإذا أُمِر ائتَمَر، وإذا نُهِي ازدجَر، وإذا أذنَب استغفَر.
بهذا الإيمان وبهذه الحلاوة ينفكّ المؤمن من رِقَّة الهوَى، ونزعات النّفس الأمّارةِ بالسّوء، وهمزاتِ الشياطين، وفِتن الدّنيا بنسائِها ومالِها وقناطيرها ومراكبها وسائر مشتهياتِها وزينتِها.
سعادةٌ وحلاوة مِلؤها القناعة، سعادةٌ وحلاوة يتباعد بِها عن الشحِّ والتّقتير والبخل والإمساك، وينطلِق في معانِي الكرمِ والإيثار والعطاء.
إنّ في حلاوةِ الإيمان ترطيباً لجَفاف المادّة الطاغية، وحدّاً من غلواءِ الجشَع والجزَع، وغَرساً لخِلال البِرّ والرّحمة، ومن ثَمّ تتنـزّل السّكينة على القلوب، وتغشى الرحمةُ النّفوس، {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [(157) سورة البقرة].
إن بناء المنشآت من مصانع ومدارس وسدود أمر سهل ومقدور عليه، ولكن الأمر الشاق حقاً هو بناء الإنسان وتغيير فكره وقلبه، الإنسان المتحكم في شهواته الذي يعطي الحياة كما يأخذ منها، ويؤدي واجبه كما يطلب حقه، الإنسان الذي يعرف الحق ويؤمن به ويدافع عنه، ويعرف الخير ويحبه للناس كما يحبه لنفسه، ويتحمل تبعته في إصلاح الفساد، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضحية بالنفس والمال في سبيل الله، إن التغيير في هذا الإنسان أمر عسير غير يسير، ولكننا نجد الإيمان حينما يتغلغل ويصل إلى سويداء القلوب نجده يفعل الأعاجيب بصاحبه.
فالإيمان هو الذي يهيئ النفوس لتقبل المبادئ، مهما يكمن وراءها من تكاليف وواجبات وتضحيات ومشقات. حسبنا مثلاً على الإيمان الصادق والتحول الإيماني الفريد رجل وامرأة عُرف أمرهما في الجاهلية، وعرف أمرهما في الإسلام؟!
الرجل هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي نعرف عنه ونقرأ ما بلغ في الجاهلية قبل إسلامه، وحين انتقل من الجاهلية إلى الإسلام، وتحرر عقله حتى بلغ به الأمر إلى أن قطع شجرة الرضوان التي بايع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه يوم الحديبية تحتها؛ خشية أن يطول الزمن بالناس فيقدسوها، ويقف أمام الحجر الأسود بالكعبة فيقول: أيها الحجر إني أقبلك، وأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولو لا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.
عمر -رضي الله عنه- يبلغ من سمو عاطفته ورقة قلبه وخشيته لله ما ملأ صفحات التاريخ بآيات الرحمة الشاملة للمسلم وغير المسلم، بل حتى الحيوان، حتى قال -رضي الله عنه-: "والله لو عثرت بغلة بشط الفرات لرأيتني مسؤولاً عنها أمام الله؛ لِمَ لمْ أسوِّ لها الطريق؟".
هذا هو الرجل -رضي الله عنه- وأرضاه.
أما المرأة فهي الخنساء، التي فقدت في الجاهلية أخاها لأبيها –صخراً- فملأت الآفاق عليه بكاءً وعويلاً، وشعراً حزيناً، ومن شعرها قولها:
يذكرني طلوع الشمس صخراً *** وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي *** على إخوانهم لقتلت نفسي
ولكننا بعد إسلامها نراها امرأة أخرى؛ نراها أُماً تقدم فلذات كبدها إلى ميدان الموت راضيةً مطمئنةً، بل محرضة دافعة لهم.
روى المؤرخون أنها شهدت حرب القادسية بين المسلمين والفرس تحت راية القائد سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وكان معها بنوها الأربعة، فجلست إليهم في ليلة من الليالي الحاسمة، تعظهم وتحثهم على القتال والثبات وكان من قولها لهم: "أي بَنيّ، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة ما خُنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجّنت حسبكم، ولا غيّرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [(200) سورة آل عمران]، فإذا أصبحتم غداً -إن شاء الله- سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائكم مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، تظفروا بالغنم في دار الخلد".
فلما أصبحوا باشروا القتال بقلوب فتية، وأنوف حمية، إذا فتر أحدهم ذكّره إخوته وصية أمهم العجوز، فزأر كالليث وانطلق كالسهم، وظلوا كذلك حتى استشهدوا واحداً بعد واحد، وبلغ الأمَّ نَعْيُ الأربعة الأبطال في يوم واحد، فلم تلطم خداً، ولم تشق جيباً، ولكنها استقبلت الخبر بإيمان الصابرين، وصبر المؤمنين وقالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".
ما الذي تغير في عمر القديم وعمر الجديد؟ وما الذي تغير في الخنساء الحزينة الباكية النائحة، إلى خنساء الصبر والفداء والتضحية؟ إنه الإيمان الصادق بالله -عز وجل- حيث تغيرا من حال إلى حال، وفي كل زمان ومكان نجد رجالاً ونساءً كانوا يعيشون في الشر والفساد، فأراد الله لهم الهداية والتوفيق، وعاشوا بقية حياتهم حياة إسلامية إيمانية غيرت تلك الحياة الأولى.
وفي زمننا هذا نجد من التائبين العائدين إلى الله رجالاً ونساءً، والفرق واضح لدى الجميع بين حياتهم الأولى وما هم عليه الآن، وذلك من فضل الله عليهم وهدايته للأخيار.
البيوت المؤمنة تُخْرج أشبال الإيمان، والأسر التي تربت على الإيمان تخرج أشبال الإيمان، وإليكم هذا المثل: عمر بن عبد العزيز -عليه رحمة الله- ورضوانه في يوم العيد، وهو خليفة المسلمين يدخل رجال المسلمين ليهنئونه ويدعون له بقبول الصيام والقيام، ثم يذهب الرجال ويدخل الأطفال -أطفال الرعية- فدخلوا في هيئة حسنة وجميلة، وبينهم طفل من أطفال عمر ثيابه خَلِقَة بالية، وميزانية الأمَّة كلها تحت يديه، ومع ذلك ركل الدنيا تحت قدميه، وربَّى في أهله الإيمان، ففازوا بأعظم حُلة إنها حلة الإيمان، يوم رأى ابنه في يوم العيد بين أطفال الرعية وهم في هيئة حسنة وهو في تلك الهيئة، طأطأ رأسه وبكى، فقال هذا الطفل الصغير، والذي تربى على الإيمان: أبتاه ما الذي طأطأ بك رأسك وأبكاك، قال: يا بني والله ما من شيء إلا أني خشيت أن ينكسر قلبك يوم العيد بين أطفال الرَّعية وأنت بهذه الهيئة وهم بتلك الهيئة، فردَّ ردَّ الرجال المؤمنين، قال: "أبتاه إنما ينكسر قلب من عصى ربه ومولاه، وعقَّ أمه وأباه، أما أنا فلا والله".
ما الذي علَّم هذا الطفل أن يجيب هذه الإجابة؟ إنه الله الذي رزقه الإيمان من صغره فتربى على هذا الإيمان فكان منه ما كان.
الفرد بلا إيمان ريشة في مهَبِّ الريح، لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، أينما الريح تميل مال، الفرد بلا إيمان إنسان لا قيمة له ولا جذور، إنسان قلق متبرِّم حائر، لا يعرف حقيقة نفسه، ولا سر وجوده، لا يدري من ألبسه ثوب الحياة؟ ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينـزعه عنه بعد حين؟
الفرد باختصار بلا إيمان حيوان شَرِه، وسبع فاتك مفترس، بقلب لا يفقه، بأذن لا تسمع، بعين لا تبصر، بهيمة بل أضل.
والمجتمع كذلك -المجتمع بلا إيمان- مجتمع غابة، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة؛ لأن الحياة فيه للأقوى لا للأفضل والأفقه، المجتمع بلا إيمان مجتمع تعاسة وشقاء، وإن زخر بأدوات الرفاهية من الرخاء، المجتمع بلا إيمان مجتمع تافه مهين رخيص، غايات أهله لا تتجاوز شهوات بطونهم وفروجهم، {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [(12) سورة محمد].
إن للإيمان حلاوة وطعم يتذوقه من كان أهلاً لذلك، وحلاوة الإيمان لا يتغير فهو حلو دائماً، وإنما الذي يتغير هو حال من يتذوقونه، كالمريض الذي لا يستشعر عذوبة الماء الفرات، فليس العيب في الماء، ولكن العيب في الحالة المرضية التي حالت دون التذوق.
إن السلامة والسعادة، مطلبان ثابتان لكل إنسان، كائناً من كان، في كل زمان ومكان، من الفيلسوف في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن الملك في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الحقير، ومن المترف في ملذاته، إلى الفقير في ويلاته، ولكن السؤال الذي يحيّر الإنسان عبر العصور والأجيال: أين السعادة؟ ولماذا الشقاء؟
والجواب: لقد طلبها الأكثرون في غير موضعها ومظانها، فعادوا كما يعود طالب اللؤلؤ في الصحراء صفر اليدين، مجهود البدن، كسير النفس، خائب الرجاء.
لقد توهموها في ألوان المتع المادية، وفي أصناف الشهوات الحسية، فما وجدوها، فهي لم ولن تحقق السعادة أبداً وربما زادتهم مع كل جديد منها همّاً جديداً، لذا لا بد من التفريق بين السعادة واللذة، اللذة طبيعتها حسية، مرتبطة بالجسد الفاني، تأتي من خارج الإنسان، فهو يلهث وراءها، ويتعب في تحصيلها، وهي متناقضة في تأثيرها، تتبعها كآبة مدمرة، وتنقطع بالموت، فإن كانت مبنية على الظلم والعدوان، استحق صاحبها الوعيد يوم الدين.
بينما السعادة طبيعتها نفسية، مرتبطة بذات الإنسان الخالدة، تنبع من داخل الإنسان، سهلة في تحصيلها، متناسبة في تأثيرها، يشقى الإنسان بفقدها ولو ملك كل شيء، ويسعد بها ولو فقد كل شيء، تقفز إلى ملايين الأضعاف بعد الموت، يستحق صاحبها جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيها نظر إلى وجه الله الكريم، ورضوان من الله أكبر.
واللذة تحتاج إلى عناصر ثلاثة مجتمعة: وقت وصحة ومال، والإنسان يفتقد أحد هذه العناصر في كل طور من أطوار حياته، ففي الطور الأول من حياته يتوافر الوقت والصحة، ويفتقد المال، وفي الطور الثاني من حياته يتوافر المال والصحة، ويفتقد الوقت، وفي الطور الثالث من حياته يتوافر الوقت والمال، وتُفتقد الصحة، بينما السعادة تحتاج إلى عناصر ثلاثة: إيمان بالله إيماناً حقيقياً، واستقامة على أمره، وعمل صالح تجاه خلقه. وهذه متوافرة في كل زمان ومكان، وفي كل طور من أطوار حياة هذا الإنسان.
غاضب زوجٌ زوجته، فقال لها: لأشقينك! فقالت الزوجة في هدوء: لا تستطيع أن تشقيني، كما لا تملك أن تسعدني، فقال الزوج في حَنَق: وكيف لا أستطيع؟ فقالت الزوجة في ثقة: لو كانت السعادة في مال وكنت تملكه لقطعته عني، ولو كانت السعادة في الحلي والحلل، لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون، فقال الزوج في دهشة: وما هو؟ فقالت الزوجة في يقين؛ إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي.
هذه هي السعادة الحقة التي لا يملك بشر أن يعطيها، ولا يملك أحد أن ينتزعها ممن أوتيها، إن الساخطين والشاكين لا يذوقون للسرور طعماً، إن حياتهم كلها سواد ممتد، وظلام متصل، وليل حالك لا يعقبه نهار، أما حزن المؤمن فلغيره أكثر من حزنه لنفسه، وإذا حزن لنفسه فلآخرته قبل دنياه، وإذا حزن لدنياه فهو حزن عارض موقوت كغمام الصيف، سرعان ما ينقشع إذا هبت عليه رياح الإيمان.
قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد من اليمن، وهم ثلاثة عشر رجلاً قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم، وأكرم منـزلهم، وقالوا: يا رسول الله، سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ردوها على فقرائكم))، قالوا: يا رسول الله، ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما وفد العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من اليمن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الهدى بيد الله -عز وجل-، فمن أراد به خيراً شرح صدره للإيمان))، وسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم رغبة، وأمر بلالاً بحسن ضيافتهم، فأقاموا أياماً، ولم يطيلوا المكث، فقيل لهم: ما يُعجِلكم؟ فقالوا: نرجع إلى مَنْ وراءَنا، فنخبرهم برؤيتنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلامِنا إياه، وما رد علينا، ثم جاؤوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يدعونه، فأرسل إليهم بلالاً، فأجازهم بأرفع ما كان يجيز له الوفود، قال: ((هل بقي منكم أحد؟)) قالوا: نعم، غلام خلَّفناه على رحالنا هو أحدثنا سناً، قال: ((أرسلوه إلينا))، فلما رجعوا إلى رحالهم، قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاقضِ حاجتك منه، فإنَّا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه، فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني امرؤ من بني أبذي -أي من الرهط الذين أتوك آنفاً- فقضيت حوائجهم، فاقضِ حاجتي يا رسول الله، قال: ((وما حاجتك؟))، قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا من صدقاتهم، وإني واللهِ ما أقدمني من بلادي إلا أن تسأل الله -عز وجل- أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقبل إلى الغلام-: ((اللهم اغفر له وارحمه، وأجعل غناه في قلبه))، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الموسم بمنى سنة عشر، فقالوا: نحن بنو أبذي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟))، قالوا: يا رسول الله! ما رأيناه قط، ولا سمعنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها، ولا التفت إليها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الحمد لله، إني لأرجو أن يموت جميعاً)). فقال رجل منهم: أوليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله -عز وجل- في أي أوديتها هلك))، قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزق، فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه، فذكَّرهم بالله وبالإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق يذكره ويسأل عنه حتى بلغه حاله، وما قام به، فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيراً.
فالناس يموتون على ما عاشوا عليه، فمن عاش جميعاً مات جميعاً، ومن عاش أوزاعاً شتى، وأجزاء متناثرة، مات كما عاش، وقليل من الناس، بل أقل من القليل ذلك الذي يعيش لغاية واحدة، ويجمع همومه في همّ واحد، يحيا له، ويموت له، ذلك هو المؤمن البصير الذي غايته الفرار إلى الله، وسبيله اتباع ما شرع الله، وكل شيء في حياته لله وبالله، حاله تنطق بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(162) سورة الأنعام].
إن الناس يخافون من أشياء كثيرة، وأمور شتى، ولكن المؤمن سد أبواب الخوف كلها، فلا يخاف إلا من الله وحده، يخافه أن يكون فرَّط في حقه أو اعتدى على خلقه، أما الناس فلا يخافهم؛ لأنهم لا يملكون له ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، والمؤمن آمن على رزقه أن يفوته، فإن الأرزاق في ضمان الله الذي لا يُخلِفُ وعدَه، ولا يضيع عبده، وهو الذي يُطعم الطير في الوكنات، والسباع في الفلوات، والأسماك في البحار، والديدان في الصخور، وهو الذي يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء.
لقد كان المؤمن يذهب إلى ميدان الجهاد حاملاً رأسه على كفه متمنياً الموت في سبيل عقيدته، ومن خَلفِه ذرية ضعاف، وأفراخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر، ولكنه يوقن أنه يتركهم في رعاية رب كريم، هو أبر بهم، وأحنى عليهم منه، وتقول الزوجة عن زوجها وهو ذاهب في سبيل الله: إني عرفته أكَّالاً وما عرفته رزَّاقاً، ولئن ذهب الأكَّال، لقد بقي الرزّاق.
وهو آمن على أجله فإن الله قدر له ميقاتاً مسـمى، أياماً معـدودة، وأنفاساً محـدودة، لا تملك قوة في الأرض أن تنقص من هذا المقدار أو تزيد فيه.
هدد الحجاجُ سعيدَ بن جبير التابعي الجليل بالقتل، فقال له سعيد: "لو علمتُ أن الموت والحياة في يدك، ما عبدت إلهاً غيرك".
إن الإيمان والأمل متلازمان، فالمؤمن أوسع الناس أملاً، وأكثرهم تفاؤلاً واستبشاراً وأبعدهم عن التشاؤم والتبرم والضجر.
المؤمن يعتصم بهذا الإله العظيم، البر الرحيم، العزيز الحكيم، الغفور الودود، ذي العرش المجيد، الفعَّال لما يريد، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، أرحم بعباده من الأم بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم.
فالمؤمن إذا حارب كان واثقاً بالنصر؛ لأنه مع الله فالله معه، {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [(172-173) سورة الصافات]، وهذا درس بليغ لنا في معركتنا مع أعدائنا.
والمؤمن إذا مرض لم ينقطع أمله في العافية؛ {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [(80) سورة الشعراء]، والمؤمن إذا اقترف ذنباً لن ييأس من المغفرة؛ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [(53) سورة الزمر].
والمؤمن إذا أعسر لم يزل يؤمل باليسر؛ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [(5) سورة الشرح]، والمؤمن إذا انتابته كارثة من الكوارث كان على رجاء من الله أن يأجره في مصيبته، وأن يخلفه خيراً منها.
والمؤمن إذا رأى الباطل يقوم في غفلة الحق، ويصول ويجول، أيقن أن الباطل إلى زوال، وأن الحق إلى ظهور وانتصار، والمؤمن إذا أدركته الشيخوخة، واشتعل رأسه شيباً لا ينفكُّ يرجو حياة أخرى، شباباً بلا هرم، وحياة بلا موت، وسعادة بلا شقاء.
الإيمان هو قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وهو الحياة التي من حُرِمَها فهو في جملة الأموات، وهو النور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، وهو الشفاء الذي من عدمه حلّت به الأسقام، وهو اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، لذلك قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أنس بن مالك: ((ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار)).
والحمد لله أولاً وآخراً...
أبوأسامة مبارك
أبوأسامة مبارك
Admin

عدد المساهمات : 439
تاريخ التسجيل : 24/12/2008
العمر : 53

https://tiabinet.forumactif.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى